logo

بناء الشخصية الإبداعية في الإسلام


بتاريخ : الخميس ، 18 صفر ، 1441 الموافق 17 أكتوبر 2019
بقلم : محفوظ ولد خيري
بناء الشخصية الإبداعية في الإسلام

أولى الإسلام الشخصية الإنسانية عناية فائقة، وجعل بناءها وتطويرها من أولوياته، التي تقوم على مقاييس محددة في غاية الدقة والإتقان، بخلاف المقاييس البشرية، التي ترتكز في معظمها على الأهواء البشرية والمصالح الضيقة.

والمقصود بالشخصية: النظام المتكامل الذي يشمل كل الاستعدادات والميول والغرائز والدوافع والقوى البيولوجية الفطرية الموروثة، وكذلك الصفات والاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة.

أما الشخصية الإبداعية: فهي مجموعة الخصائص والصفات الشخصية التي تحفز الإبداع في الإنسان.

وغني عن القول أن الرؤية الإسلامية مسار مفتوح لاستشعار الجمال، وبالضرورة الإبداع، واستنطاقه واستيطانه واستلهامه والبحث عنه، وتنميته، بأبعاده المختلفة ومستوياته المتباينة ومجالاته المتنوعة (الروحية والمادية)، حتمًا ضمن الرؤية النابعة من قلب الإسلام، والمنضبطة وَفْق تصوره.

ولا يخفى أن من أبرز خصائص العقل الإبداعي الإدراك الجمالي، واكتساب القيم الجمالية؛ فالتربية الجمالية درجة ارتقاء للعقل في معراج الفكر، وتحليق للروح في فضاء الإيمان الوضيء، فهي توسّع الفضاءَ المعرفي والوجداني، وتجعل مدرِك الجمال أقرب إلى مبدِع وخالق الجمال، وإذا أضفنا إلى ذلك أن مدرِك الجمال يمتلك وجدانًا حيًا يقظًا، «فقد نجد المبدع شخصًا ذا حساسية مرهفة، وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات، فمنظر غروب الشمس قد لا يثير عند الشخص العادي سوى ترقب قدوم الليل، أما بالنسبة للمبدع فقد يكون بؤرة لكثير من المشاعر بمقياس الحساسية المرهفة والوجدان اليقظ».

وحسبنا أن السيرة الحية للنبي صلى الله عليه وسلم تؤكد بأنه يملك وجدانًا يقظًا وقلبًا فياضًا؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159].

لقد راعى الإسلام ورعى في نظامه الأقوم وآدابه البنّاءة كل جوانب الإبداع في النفس البشرية، وقوم ووجه هذه الجوانب؛ فأرشد إلى خير السبل في توجيه ملكة الإبداع واستصلاحها، والموازنة بين عناصرها جميعًا، وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الإبداع ككل؛ فحفز جوانب الإبداع الإيجابي في الشخصية الإسلامية، من خلال مجموعة من الروافد كان لها بالغ الأثر في تكوين الشخصية الإبداعية المسلمة، وتمييزها عن الشخصيات الأخرى، وذلك من خلال ما يأتي:

أولا: الحث على التفكير الإبداعي:

التفكير الإبداعي: هو ذلكم التفكير الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل، وينفي الأفكار الوضعيّة المقبولة مسبقًا، ويتضمن الدافعية والمثابرة والاستمرارية في العمل، والقدرة العالية على تكوين الحل لمشكلة ما تكوينًا جديدًا؛ فالعقل ينضج ويتطور، والفكر تتسع مداركه وتزداد قدراته على المعالجة والحفظ والتدبر والتأمل، من خلال زيادة التفكير المنطقي السليم، والذي ليس له محصلة إلا الإبداع والتميز، وهذا ما أراده الإسلام لأتباعه وجنده، وللمتفكرين في القرآن الكريم نصيب طيب من المدح؛ حيث ذكرهم الله تعالى في آيات كثيرة؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].

أمر الإسلام بإعمال العقل وإطلاقه من عقاله، ومنحه مساحة كبيرة من حرية التفكير؛ لأن في ذلك منفعة للأمة، وزيادة في تقدمها وتطورها وارتقاءها في العلوم والمعارف؛ لأن العقول المعطلة تبقى ميتة لا نفع فيها؛ لذا حرص الإسلام على إطلاق تفكير الإنسان منذ نعومة أظفاره، ونعى على أولئك الذين يتقيدون في التفكير بحدود ما وصل إليه أسلافهم، أو يقيدون عقولهم بعقول آخرين ربما كانوا أضعف منهم ملكة في التفكير؛ قال تعالى: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104]، وبنفس الحرص الذي أبداه الإسلام تجاه الإنسان، بدنًا وجسدًا وأعضاءً، حرص كذلك على حرية عقلة وفكره، بعيدًا عن أية قيود تحد من انطلاقه، وتمنعه من التفكير والتأمل والتدبر؛ بل إنه حض وشدد على أن يكون العقل والفكر حرًا طليقًا، يجول في ملكوت السماوات والأرض يتدبرها ويعقلها، ويتعرف على آيات الله فيها فتزيده إيمانًا بالله، وتكون طريقًا موصلًا له إلى معرفة خالقه ومولاه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8]، وقد لاحظ بعض المفكرين أن الإنسان، الذي يمتاز حتى في بنيته التشريحية عن بقية الثديات، مصمم بطريقة تساعده على التفكير والتأمل فيما حوله من عجائب الكون، يقول الدكتور أحمد زكي: «فالله صمم جسم الحيوان وركب هيكله كأنه لم يرد من هذا التصميم أن يتمكن الحيوان من النظر إلى السماء، وذلك لأسباب عدة، من أهمها: أنه مع عقله العاجز لا يستفيد من هذا النظر شيئًا، وعلى غير هذا الطراز صمم ربنا جسم الإنسان وركب هيكله، فالإنسان عقل زاخر كثير الوعي، وهو قادر كثير القدرة، فهو يستفيد من النظر إلى السماء أكبر استفادة، ويلقى في سبيل هذا النظر بعض المشقة، ولكنها تهون في هذا السبيل الذي هو فيه».

ثانيًا: بعث روح التفاؤل والإيجابية:

يعد التفاؤل مؤشرًا على الصحة النفسية العالية؛ فهو سمة إيجابية للنفس السوية، يترك أثره على تصرفات الإنسان ومواقفه، ويمنحه حياةً مستقرة سوية، يكون بمقدور صاحبها أن ينتج ويبدع في إنتاجه؛ ولذا فإن الإسلام يغرس في شخصية الإنسان التفاؤل والإيجابية، وينأى به عن التقاعس والكسل، حتى على مستوى الكلمة يقولها الشخص في حق نفسه.

ولكي يبقى المسلم متفائلًا حرر الإسلام شخصيته من كل ضغط نفسي يمكن أن يؤثر عليه؛ مثل الخوف من المستقبل، والهلع من قادم الأيام؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن هذه الوساوس، التي قد تعترينا أحيانًا، إنما هي من الشيطان، أما المنهج الرباني فهو إنما يدخر لنا الفضل والخير العميم، في مستقبلنا ومصيرنا الآجل؛ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، وكذلك حرر الإسلام الشخص من الخوف من الموت، ومن الخوف من المرض، ومن الخوف من انقطاع الرزق؛ «اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفت الصحف» [أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي (4/ 667)].

إن مثل هذه الروح الإيجابية، التي تغرس في شخصية الفرد المسلم، من شأنها أن تدخل الطمأنينة والسعادة إلى نفسه، ثم تنتقل إلى المجتمع ليصبح هذا الفرد عنصرًا فعالًا منتجًا ومبدعًا في مجتمع رشيد.

ثالثًا: تعزيز الاعتداد بالنفس وعدم التبعية:

الاعتداد بالنفس شعور داخلي، يعبر عما يشعر به الإنسان تجاه نفسه من فخر واعتزاز، وهو يؤدي إلى الثقة بالنفس، التي تُكوِّن في النهاية الشخصية المبدعة، وقد حث الإسلام الفرد المسلم على الاعتداد بنفسه، وعدم الركون للذلة والمسكنة، وعدم التبعية، وأن تكون للمسلم شخصيته المستقلة المتميزة، وأرشد إلى مخالفة أهل الكتاب وغيرهم، من أصحاب الملل والنِّحل الأخرى، في أمور كثيرة؛ مثل: استقبال القبلة، والصلاة بالنعال، والترغيب في السحور، وتعجيل الفطر، وتغيير الشيب، والنهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تكونوا إمعة؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا» [رواه الترمذي] .

ومظاهر الاعتداد بالنفس تبرز كذلك في اهتمام الشخص بمظهره الخارجي؛ بغية الحصول على القبول الاجتماعي، ولكن بدون غرور وكبرياء ومغالاة أو إسراف، ومن الاعتداد بالنفس ألا يتراجع الشخص في قرار اتخذه، طالما لم يتبين له أنه كان مخطئًا، ومن صور الاعتداد بالنفس التي عملت السنة على إذكائها تنمية روح التنافس في الخيرات بين الأفراد، فكثيرًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع من شأن الفرد، ويعلي من معنوياته بأسلوب يدفعه لإتقان العمل، والمواظبة على الإتيان بالمزيد، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: (لا إله إلا الله) خالصًا من قلبه [أو] نفسه» [البخاري].

وأذكت السنة روح التنافس حين سمحت للطاقات العقلية الإبداعية بالتفجر ولم تحجر عليها؛ بل إنها استلهمتها لاستخراج المكنون من كنوزها؛ والدليل العملي على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يدلون بآرائهم في المواقف كلها، وبين ظهرانيهم قائد ينزل عليه وحي السماء، فتفتقت أذهانهم عن أمور إبداعية كثيرة؛ فهذا الحباب بن المنذر يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي، ومن هذا الباب موافقات عمر رضي الله عنه، وإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق...، وغيرها.

والدراسات العلمية اليوم تشير إلى أن انخفاض شعور الفرد بأهميته، وأهمية الأعمال التي يقوم في الغالب بأدائها، تعد من معوقات الإبداع التي تكبح جماحه، وتطفئ جذوة لهيبه في نفوس المبدعين.

رابعًا: تحقيق الحرية بمعناها الصحيح:

العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة متكاملة ومرتبطة بعضها ببعض، فلا إبداع بدون حرية؛ لأن الحرية هي الضمان الوحيد لإبداع حقيقي يقترب من الواقع بمعطياته، وفي ذات الوقت يأخذ بالحسبان الثوابت التي يسير عليها المجتمع ويتمسك بها، فتكون مصدرًا لانطلاقته الإبداعية؛ فالحرية قيمة من القيم الأساسية التي تعمل بمثابة إطار مرجعي، ينظم سلوك المبدعين ويحركه، وقد فتح الإسلام، بمجيئه، آفاقًا للحرية ساهمت في تكوين البيئة الخصبة للإبداع، فالإسلام جاء بالتوحيد الذي يجسد الحرية في أسمى معانيها؛ ذلك أن العبودية تأخذ أشكالًا وصورًا متعددة، ومن ثم فإننا نجد هذا البعد حاضرًا في الإشارات النّبوية.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلن الرفض لكل أنواع العبودية لغير الله، ابتداءً من الأوثان البشرية، ومرورًا بالمعشوقات الحجرية، وانتهاءً بالتعلقات الخفية؛ كعشق الهوى والمال والمرأة، ولقد مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا من دعوته يرسخ مفهوم التوحيد، ويجذره في نفوس المسلمين، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» [رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه النووي في الأربعين النووية].

ويقول عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، إن أُعطِي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يَفِ» [سنن ابن ماجه]، فالعبودية للسالف ذكره استلاب لحرية العقل، ودفن لطاقاته الإبداعية، يقع المرء من خلالها تحت سطوة اللذة العاجلة واللحظة الراهنة، بيد أن التحرر من العبودية لغير الله دعوة مفتوحة لالتحام بالكتلة العمرانية لنعيد للأمة تميزها ودورها الفاعل، وما التحول المذهل في العقل الجاهلي وإعادة تشكيله إلا من صناعة التوحيد.

من خلال هذه الركائز والروافد بنى الإسلام شخصية إبداعية متميزة، تتمتع بالاستقرار الداخلي، ولا تعاني الحيرة والاضطراب والتوهان، الذي تعيشه بعض النفوس التَّواقة للإبداع في الحضارات الأخرى، ومن ثم جاءت الشخصية الإبداعية المسلمة متميزة في إبداعها، منسجمة مع مجتمعها، فهي لا تعيش انفصامًا في الرؤى، ولا ازدواجًا في المعايير، وهي تعمل وتنتج وتبدع لدنياها في الوقت الذي لا تنسى فيه نصيبها من الأخرى، وذلكم هو جوهر التميز في حضارة الإسلام.

_____________