logo

التحايل على الشريعة وتتبع الرخص


بتاريخ : الجمعة ، 11 ربيع الأول ، 1436 الموافق 02 يناير 2015
بقلم : محمد الغباشي
التحايل على الشريعة وتتبع الرخص

الاحتيال صِفةٌ مذمومة قبيحة،تُنقِصمِن قدْر صاحبها عندَ الله وعندَ الناس، بل وتُشوِّه صورته فيما بينه وبيننفْسه، هذا إنْ مارسه الإنسانُ في حقِّ أخيه الإنسان، فاستولى به على مالهأو شيءٍ من ممتلكاته بغير وجْه حق، أما إنْ

 

كان الاحتيالُ والالْتِفاف علىالشريعة والحلال والحرام؛ للتنَصُّل من التكاليف الشرعيَّة، وإعطاءمسوِّغات غير مقْنِعة للتفلُّت من أحكام الشريعة، فهذا أذمُّ وأقْبح منسَلفِه؛ فالمخادعة إنْ ساغتْ في حقِّ البشَر وانطلتْ عليهم، وظنوا بصاحبهاالتَّقْوى واتِّباعَ الشَّرْع، فإنَّها لا تَنْطَلي على الله تعالى، فهويعلم السِّرَّ وأخْفَى، ويحيط بمكنونات البشَر وخفاياهم ومراداتهم: ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? [الملك: 14].

وفي مَوْسم الحج - وهو أحد مواسمِالرُّخَص - الشرعية منها وغير الشرعية - تكثُر الاستفسارات والاستفتاءاتحولَ شعائر الحج، وما يجوز منها وما لا يجوز، والرُّخَص التي يمكن أنيترخَّص بها الإنسان للتخفُّفِ من أعباء الحجِّ ومتاعبه؛ لذلك يلجأ كثيرونإلى مَن يُخفِّف عنهم تلك الأعباء، بالترخيص في ترْك بعض الشعائر أوالتخفُّفِ منها، بحجَّة أنَّ ذلك من الشرع، وأنَّه نوعُ تيسيرٍ علىالعامَّة والضعفاء، وأنَّ النبي - عليه السلام - رخَّص لكثيرين بقوله: ((افعلْ ولا حرَجَ)).

وهذا حقٌّ مُبَطَّنٌ بالباطل في أحيانٍكثيرة؛ فالدِّين يُسْرٌ ولا شكَّ، وما خُيِّر النبي - صلَّى الله عليهوسلَّم - بيْن أمرين إلا اختار أيسرَهما بلا جدال، ولكن ينبغي أن يكون ذلكمنضبطًا بضوابطِ الشرع، لا بالأهواء والميول الشخصية، فاختيار أيسرِالأمرين كان دأب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقًّا، ولكن ما لم يكنذلك الأيسرُ إثمًا، فإنْ كان إثمًا كان أبعدَ الناس عنه، وهذا هو الضابطُفي المسألة، ألاَّ يكون أحدُ الأمرين إثمًا أو مخالفًا لهَدْيه - عليهالسلام - وما عليه صحابتُه الكرام، أو مخالفًا للشريعة الغَرَّاء ومااقْتَضَتْه قواعدُها العامَّة، فإنْ كان هذا اليسير أو الأيسر على غيرِالهَدي النبوي، فإنَّه ليس مقْصودًا في النصوص الشرعيَّة، إنَّما المقصودأن يكون اليسيرُ على الهَدْي، فإنْ لم يكن كذلك لَم يكن مِن الخياراتالمَطْروحة مِن حيثُ الأصلُ.

وهذه مسألةٌ في غاية الأهمية؛ فينبغي علىغير طالِب العِلمِ أو غيرِ الفقيه أن يجتهدَ في تحديد الشخصية التي تصلُحلإفتائه؛ فالعاميُّ ليس له إلمام بالنظر في الأدلَّة الشرعية والمفاضَلةبينها، ولا لديه الآليَّاتُ الشرعيَّة التي عنْ طريقها يُمكنه استنباطالأحكام مِن النُّصوص، ولا حتى مجرَّد القُدرة على الحُكم بصحَّة النَّصوثبوته مِن عدمها، وعليه فإنَّه مُكلَّف باختيار مَن يثق في ديانتهوتمكُّنِه مِن استنباط الأحكام والمُفاضَلة بين النصوص، أمَّا تتبُّعهللأقوال الشاذَّة أو المرْجوحة التي لا سندَ شرعيًّا لها، ولا دليلَ عليها؛إراحةً لنفسه من عناء اتِّباع الدليل، أو استثقالاً للأقوال الراجحة فيالمسائل المختلفة، فهذا اتِّباعٌ للهوى، واحتيال على الشَّرْع يُذَمُّصاحبُه، ويستحقُّ العقوبة.

ولكن هذه المسألة - أعني: اختيارالمفتي أو الفقيه - باتتْ هي الأخرى محلَّ اختلاف بيْن العامة، أو حتى بينالعاملين للدِّين، أو إنْ شئت فقل: محل اتباع للأهواء هي الأخرى، فإنْ كانالعامي قد قَصُر به جهلُهُ وقِلَّةُ ذات يدِه العِلمية عن إدراك دقَّةالعالم أو الفقيه، ومدى تمسُّكِه بالنص الصحيح واتِّباعه للدليل، فإنَّالعاملين للدِّين وطلبةَ العِلم ليسوا كذلك، فيَنبغي ألاَّ تُحرِّكهمانتماءاتهم "الحزبية"، وميلُهمالقلبي لعالِم دون آخَرَ عن اتباع الحق واستقصائه، وهذا شأنُ المصلحين منالسَّلَف والخَلَف؛ حيث كان الدليل الشرعي حاديَهم، يُنير لهم طريقَهم،ويُزيل عنهم جهالتَهم، بغضِّ النظر عمَّن أخذ به، أهو في معسكرهم أم فيمعسكر غيرهم، على مذهبهم أم على مذهب غيرهم.

إلا أنَّ بعض طلبة العلم والعاملينللدِّين هم أقربُ إلى العامة منهم إلى المتعلِّمين، حيث تُحرِّكهم أهواؤهم،وتَحدُوهم أفكارهم، وتسيطر عليهم انتماءاتُهم، فعلَى الرغم مما يُرى منبعضهم مِن ثقافة واطِّلاع في ميادينَ كثيرة، إلا أنَّ "ثقافتهم" الشرعية - إنْ صحَّ التعبير- من الضحالة بمكان، بل يُمكننا أن نقول: إنَّبعضَهم يسلُك مسلكًا من التساهُل في الالتزام بالأحكام الشرعيَّة عن قصْدمنه - أو عن جهل - بهدَف إظهار الجانبِ الإيجابي مِن الإسلام - هكذا يرون - فإنْ قدَّر الله لهم أن يكون شيخُهم وإمامهم - المعتمد لديهم - منالمتساهلين الذين قد يُسايرون الواقِعَ أحيانًا، ويسيرون على الدَّرْبأحيانًا أخرى، ساروا على نهْج التساهُل والتميُّع نفسه، بل صار ذلك سليقةًفي طبائعهم؛ حتى ضيَّعوا كثيرًا من الدِّين بحجَّة الأخْذ بقول الشيخ؛ فهولديهم عالِمٌ مجتهد.

وفي المقابل إنْ قدَّر اللهُ لآخرين أنيكون شيخُهم وعالمهم - المعتمد لديهم - من المتشدِّدين في كلِّ كبيرةوصغيرة - ونقصد بذلك مَن يُقيم الناس على مبادئ الاحتياط ويُلزِمهم بها - ساروا على نهجِ التشديد، لا على النفس فقط، ولكن على الآخرين كذلك،فألْزَموا أنفسَهم وغيرَهم بأمور زائدة على الشريعة، واحتياطاتٍ بلامسوِّغ، وألْزموا بها غيرَهم دون سندٍ شرعي، أو دليل صحيح.

ولا شكَّ أنَّ كِلاَ الفريقين مخطِئ،فالزيادة في الشريعة والانتقاص منها على نَفْسِ المسافة مِن الافتئات علىالدِّين، والأَوْلى منهما والأصوبُ أن يَتَّبع الإنسانُ الدليل الصحيح مِنكتاب ربِّه تعالى، وسُنَّة نبيه - عليه السلام - دون الالْتفات إلى زلاَّتالعلماء أو أخطائهم، أو انتماءاتِهم التي قد تُملي عليهم أحيانًا الأخْذَبقولٍ مرجوح أو بغيْر دليل، فلكلِّ عالم زلَّة، ولكل جَوادٍ كَبْوة، أماتتبُّع زلاَّت العلماء وترخيصاتهم فهو مِن النفاق، كما أكَّد ذلك سلفُناالصالحون.

وهناك مِن الناس مَن يَظلُّ يتردَّد علىالمفتين - العلماء منهم والجهَّال - حتى يصلَ إلى مَن يفتيه بما يوافِقهواه، فيأخذ فَتواه ويَطير بها في الآفاقِ فرحًا أنْ وصل إلى مرادِه، وهذاهو الهوى المذموم، بل على الإنسانِ أن يختارَ مفتيَه بعناية ودقَّة، فإنْأفتاه سلَّم لأمرِ الله تعالى دون حرَج في نفسه أو استثقالٍ للتكليف.

إنَّ طلبةَ العلم أو العاملين للدِّين بمالديهم مِن مبادئ وأساسيات علميَّة - أو حتى ثقافة إسلاميَّة عامَّة علىأقلِّ تقدير - يُمكنهم أن يتبيَّنوا من دقَّة المفتين ومدى اتِّباعهم للحق؛من خلالِ سلوكياتهم وعملهم الموافِق للكتاب والسُّنَّة؛ فالعلماءالربَّانيون أشدُّ الناس تمسكًا بدِينهم، وأكثر الناس بُعدًا عن شهواتِالدنيا ومتاعها، بالإضافةِ إلى كون أقوالهم وفتاواهم تَنطلق من مشكاةٍواحدة مع أقوالِ وفتاوى السابقين، فلا يخالفون إجماعًا، ولا يَشُذُّون عنالقافلة، بل يأتي كلامُهم على السِّياق ذاته، ينسجون على منوالِ مَنْسبَقَهم مِن أهل العلم، وبذلك يُعرَفون.

فإذا استقرَّ المستفتي على مفتيه، وتيقَّنمِن سَيْره على النهج، فعليه أن يَحذر من الشذوذات والزلاَّت التي قدتصدُر عن المفتي، وهي قليلةٌ قليلةٌ لدَى أهل الحق، ولكن يظهر شذوذُهاومخالفتها للسياق العامِّ مِن حرجٍ يجده العامِّيُّ في قلْبه، وشعور عميقبأنَّ في الفتوى ما يَثلِمُها، هذا بالإضافة إلى مخالفتِها للأدلَّةالشرعيَّة والأصول العامَّة للإسلام، فهنا عليه أن يُراجِع المفتي أو يطلبدليلَه في المسألة، ولا بأسَ أن يستشير مَنْ حوله مِن طلبة العِلمالموثوقين.

لقدْ شاع بيْن الكثيرين مِن العاملين للدِّين مطالعةُ الدراسات المتعمِّقة حولَ الإسلاموالمقارنةبيْن نِظامه وغيره من الأنظمة الوضعيَّة الأخرى، سواء أكان ذلك في السياسةأم الاجتماع أم الاقتصاد، أم غير ذلك مِن المجالات، وهذا ولا شكَّ أمرٌمهم، بل قد يكون مِن فروض الأعيان أو الكِفايات، ولكن طغيان جانبٍ مِنجوانب العلوم على جانبٍ آخَرَ من شأنه أن يُحدِث بلبلةً وتخبُّطًا لدَىالمثقَّف أو العامل للدِّين، حيث إنَّه يكثر المطالعة والدِّراسة لهذاالجانب دون أن يكون لديه الأساسيات العِلمية التي يَبني عليها استيعابَهللفِكْرة أولاً ثم نقْده لها تاليًا، فما لم تكن لديه الأرضيةُ والقاعدةُالتي يرصُّ عليها أحجارَ العلوم لم تثبُت، فضلاً عمَّا إذا كانتْ هذهالعلوم موافقةً للمنهج الحق مِن الأساس أم لا.

قد تكون الهجماتُ المستغربة والعلمانيةقويةً على المجتمع الإسلامي، الأمر الذي يَفرِض علينا مُواجهتَها بمِثلحُجَّتها، ودراسة مناهجها الوضعيَّة العقيمة وفضْحَها أمامَ العامَّة،بذِكْر مساوئها ومزايا النِّظام الإسلامي، ولكن ذلك ينبغي ألا يُنسيَناالاهتمامَ بأن يكون لدَى الكلِّ حدٌّ ولو أدْنى مِن العلوم الشرعية التيتَقِي المسلمَ مِن الزلل، وتربأ به عن الشَّطَط، وبذلك يجمع الدارسُ بيْنصفاء المنهج والعِلم به - ولو بحدِّه الأدنى - وبين معرفةِ الواقِعوالإلْمام به ودرايته، وبهما يحصُل التوازن الذي يُتَّقَى به التشوُّهالفِكري الذي قد يقع بسبب تنمية جانبٍ على حساب جانبٍ آخَر.

ويترتَّب على هذه المسألة مسألةٌ أخرى،وهي شموليةُ المنهج الإسلامي وهيمنتُه على حياة الفَرْد، من أدنى أمر مِنشؤون حياته إلى أعلاها، ونضرِب لذلك مثالاً - وإنْ كان يسيرًا إلا أنَّهيُبرِز مدى ما وصَل إليه حالُ الترخُّص بيْن بعض العاملين للدِّين - وهومظهرٌ من مظاهرِ الالتزام عندَ النساء، ففيما مضَى مِن زمان كان هناكاتِّفاق بيْن جميع الفصائل على حدٍّ أدنى مِن الزيِّ تلبسه المرأة المسلمة،وهو الخمار، ذلك الذي يُغطِي الرأس وينزل إلى ما فوقَ الرُّكْبة أو أعلىمِن ذلك قليلاً، وبعضُ النساء كُنَّ يرتدين النقاب فوقَ الخمار أو الجلباب؛وذلك انطلاقًا من الخلاف الدائرِ في المسألة حولَ تغطية وجه المرأة، ولكنالآن بِتْنَا نرى عجبًا، حيث نرى مِن بعض الكاتبات والناشِطات والعاملاتللدِّين حُسْنَ المناظرة، والمعلومات الغزيرة المتكاثِرة في الموضوعاتالمهمَّة الجوهريَّة في الدِّين، ونلمس منهنَّ تحمُّسًا كبيرًا وتضحيةً فيسبيلِ دعوتهنَّ، ونشاطًا ليس لدى الكثيرين، ثم نفاجأ بأنهنَّ لا يختلفنَإطلاقًا في زِيهنَّ عن أية امرأة مسلِمة أخرى، بل قد تقلُّ إحداهن في (حِشمتها) عن حِشمة الكثيرات مِن النساء المسلمات، وذلك بحُجَّة وجودِ فتوى مِنالعالم الفلاني تُجيز ذلك، أو تَصِفه على أقلِّ تقدير بالكراهة لاالحُرْمة، في الوقت الذي كان فيه هذا الزِّيُّ - أعني: الخمار - شعارًايُميِّز الأختَ العاملة لدِين الله تعالى عن غيرها، فضلاً عن النِّقاب.

أضِفْ إلى ذلك التوسُّع الكبير المشاهَدفي العلاقات بيْن الرِّجال والنِّساء والشباب والفتيات - وأعني بهم: المنتمين للعمل الدعوي - ويَظهر ذلك جيدًا على منتديات الإنترنت، وموقع"فيس بوك"و"تويتر"،وغيرها مِن المواقع الاجتماعيَّة الأخرى، حيث لا يُكتفَى بالتصفُّحوالقراءة والتعليقات الجادَّة، ولكن يقَع بين الجِنسين كثيرٌ مِن الحديثوالمزاح الذي لا فائدةَ فيه، ولا طائل مِن ورائه إلا مجرَّد الترويح عنِالنفس، وهو أمرٌ لم نعهدْه إلا بيْن الرجال بعضِهم وبعض، أو بيْن النساءبعضهنَّ وبعض.

وهذا مجرَّد مثال مِن أمثلة كثيرة على شَرْعَنة الترخُّص بالرُّخَص الواهية، ومَن أراد الاستزادة، فالأمثلةُ على ذلك كثيرة.

المصدر: شبكة الألوكة