logo

بصلة الشافعي


بتاريخ : الخميس ، 20 محرّم ، 1441 الموافق 19 سبتمبر 2019
بقلم : محمد الشامي
بصلة الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

أما قبلُ:

فيعترف كاتب هذه المقالة أنه لا يمت لمضمونها الموصى به بصلة، عفا الله عنه.

وبعد:

تأكد لي، من خلال نظري في بعض سير المفكرين والعلماء، أنه لا مناص للطالب من مرحلة (الاحتراق العلمي)؛ ليكون شيئًا مذكورًا فيما يطلبه.

وهذه المرحلة تتسم بالانقطاع عن الدنيا، حتى عن بصلة الشافعي، التي يقول فيها: «لو كُلِّفت شراء بصلة لم أفهم مسألة»، والاعتكاف على الكتب جردًا وتلخيصًا وحفظًا وفهمًا.

ولذا قد تسمع من يقول من كبار العلماء: «غالب ما حصلناه كان في تلك المرحلة»، وقد صدق.

ويتسع علم الشخص ويَقْصُر باتساع تلك المرحلة وقِصَرها، مع شرطية الاستمرار المحقق للاتساع العلمي والاتقان.

ودونك، أيها القارئ، نماذج من الاحتراقات العلمية المعاصرة:

- العالم المفكر مصطفى محمود: يتحدث عن مرضه الذي أصابه وهو طالب في الجامعة، وقد أقعده هذا المرض ثلاث سنوات، وعزله في غرفة عن الناس، وقد سبقه زملاؤه فتخرجوا، فتحسر لذلك، وظن أنها ستكون محنة له، وفي تلك الفترة لم يجد ما يشغل وقته إلا القراءة، فقرأ كل الأدب العالمي (الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي والألماني والأمريكي وغيره)، فكان مرضه له منحة، حتى قال: «هذه الثلاث سنوات هي التي صنعت مصطفى محمود».

- المفكر الكبير د. عبد الوهاب المسيري، لما كان يدْرس الماجستير في جامعة كولومبيا، وكان تخصصه الأدب الانجليزي، وقد حددوا له موعد الاختبار النهائي بعد ثمانية أشهر، يقول: «أعطوني قائمة من النصوص والمراجع التي يجب أن أقرأها، ولكني وجدتها طويلة بشكل لا يصدق، فذهبت أسأل أستاذي المشرف عن حقيقة الأمر، فأخبرني بصرامة بالغة أن المطلوب مني قراءة كل ما ورد في القائمة، والتي كانت تضم كل شيء تقريبًا، فاستأجرت أنا وزوجتي غرفة في فندق رخيص قذر، وكان الفندق يقع بجوار مكتبة جامعة كولومبيا، وتفرغت للقراءة والتحصيل، فقرأت كل الأعمال الكاملة لكل الشعراء الرومانسيين الإنجليز (موضوع تخصصي)، وكثيرًا من الكتب النقدية، وخرجت من فترة الحضانة وقد تملكت ناصية الخطاب النقدي، واكتشفت أني الطالب الوحيد الذي قام بهذه العملية شبه الانتحارية، فذاع صيتي لدرجة أني بدأت بإلقاء الدروس الخصوصية على أصدقائي».

- الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير، عضو هيئة كبار العلماء، ألقى محاضرة مشهودة في ردهات كلية الشريعة بالرياض عن سيرته الذاتية، فشدني فيها مرحلة الاحتراق العلمي؛ حيث إن الشيخ لما تعين معيدًا في كلية أصول الدين، وقبل أن يكتب رسالته للماجستير عن الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به، أحس بحاجته للتوسع في التخصص، والقراءة الجادة فيه، فعكف سنتين بعد اختيار العنوان، وقبل أن يكتب حرفًا واحدًا، كان يقرأ في كل يوم مجلدًا كاملًا، فلك أن تتصور كم قرأ من المجلدات في هذه المرحلة!!

ختامًا:

(من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة).