logo

المنديل الأحمر سياسة الإلهاء


بتاريخ : الخميس ، 13 رمضان ، 1438 الموافق 08 يونيو 2017
بقلم : علي جابر المشنوي
المنديل الأحمر سياسة الإلهاء

يُفتحُ الباب للثور الهائج لينطلق غاضبًا مُسرعًا بكل قوة إلى الساحة، متجهًا إلى المصارع مباشرة لينتقم منه، الثور كبير، عظيم البُنية، هائج وغاضب، وفي مواجهته مصارع صغير، لن يستطيع مواجهة الثور ولو للحظة، ولكنه بدلًا عن المواجهة، التي سيخسرها حتمًا، يستخدم المنديل الأحمر، يُلَوحُ المصارع بمنديله نحو اليمين ونحو اليسار، يظهر مصارع آخر بمنديل آخر يلوح به أيضًا، وهكذا.

يتشتت الثور عن هدفه الرئيسي، المُصارع، إلى مطاردة المناديل الحمراء المُلَوح بها، وهكذا يستغلُ المصارع أو المصارعون حالة التشتت هذه التي حتمًا تُضعف الثور، ويبدءون في غرس سهامهم واحدًا وراء الثاني في رقبة الثور الهائج، الذي أدركه الإعياء لطول مطاردته للمناديل، ثم لا يلبث الثور أن يسقط تمامًا، وهنا يتمكن المصارع الصغير من هدفه عندما يجد الثور الهائج الكبير، الذي ليس له طاقة، يجده أمامه ساقطًا بلا حراك، فيُجهز عليه، أمام التصفيق والتصفير من الحضور!

هذه هي قصة مصارعة الثيران، وهذه القصة بالضبط تتكرر كثيرًا في حياة الأمم والشعوب، وبما أن هذه التجربة ناجحة، فإنها أصبحت خيارًا جيدًا يستخدمه أهل الأهواء والإفساد في تمرير مشاريعهم، ففي سبيل إضعاف غضب الأمم والمجتمعات، وفي سبيل تشتيت الجهد المجتمعي الرافض للفساد، يستحضر المُفسد طريقة المُصارع والمنديل الأحمر، فيُسَوق لقضية هنا، ويعلن عن قرار هناك، وينشر أكذوبة هنا، ويأمر بعملٍ إيجابي هناك، وهكذا؛ ليلتهي ذلك المجتمع أو تلك الأمة عن القضية الرئيسية التي أَحْفَظَتْها وأغضبتها، وتتشتت الجهود بين هذا الخبر وذاك وهذه وتلك وهكذا، إلى أن تضيع البوصلة تمامًا، وينتصر المُفسد، ويعود ذلك المجتمع بخسائر كثيرة، فلا هو ربح معركته التي حارب من أجلها، ولا هو حافظ على نشاطه واستخدمه في مشاريع أخرى؛ بل عاد منهكًا مهزومًا، وربما استغفله المُفسد أكثر من ذلك فرمى له بقطعة صغيرة من الحلوى يلهو ويتمتع بها، تُلهيه عن نفسه وعما يُصنع حوله، ويلوحُ بها أمام أعين الشامتين أن انظروا: لقد ظفرتُ بهذه!

ولهذا فإن المجتمع الناجح هو ذلك المجتمع الذي يعرف أولوياته جيدًا، وإذا سار في طريق نحو مطلبٍ ما لم تُلهه عن مطلبه بُنياتُ الطريق، ولا الأحداث المفتعلة، ولا المناديلُ الحمراء الملوح بها هنا وهناك؛ بل يسير في مهمته الرئيسية وهدفه الأساسي، وكلما زادت المُلهيات والمناديل كلما زاد تركيزه أكثر على هدفه الأول؛ لأنه يعلم أن ازدياد المناديل الحمراء دليل قاطع على صحة طريقه وأهمية هدفه ومبتغاه.

هناك سبب مهم يقف خلف مثل هذا التخبط والجري خلف المناديل، وهذا السبب هو غياب المشروع!

فماذا يعني غياب المشروع؟

معناه أن تَظل ردةَ فعلٍ للحدث الجزئي، أن تبقى مستعدًا متحفزًا متوترًا بسبب وبلا سبب، ترتقب خطوات المفسدين ثم تكون ردة فعلٍ لها، أن تأتي في أعقاب الآخرين، أن تكون كالأعرابي الذي غفل عن حفظ إبله، فبَيَّتَهُ اللصوص وسرقوا إبله وذهبوا بها، فلم يملك إلا أن صعد إلى أكمة ثم أوسعهم سبًا وشتمًا! فلما أسفر النهار سأله قومه: ما الذي حصل؟ فقال مسرورًا متوهمًا النصر: «أوسعتهم شتمًا وساروا بالإبل»!

وعندما يحضر المشروع، وتتضح الفكرة، يذهب كل هذا، ويصبحُ الآخرون ردة فعل وأنت في المقدمة؛ لأنك تبني، لأنك تخطو، لأنك تزرع، لأنك ترى بناءك يكبر أمامك في طريقه إلى الصورة الكاملة المرسومة في ذهنك، لأنك ترى بذرتك تنمو وتستوي، تنشر جذورها في باطن الأرض وتبعث أغصانها عاليًا، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، عندما تكون هنا، فأنت لا تهتم كثيرًا لما يفعله الآخرون، لا تنشغل كثيرًا بحجم الدمار من حولك، ليس لديك الوقت لأن يلهو الآخر بمنديله أمام عينيك؛ لأنك ببساطة مشغول بزرعك، ببنائك، عيناك تنظر فقط إلى غاية واحدة وهدف واحد، وتغض طرفها عما سواه!

وأصحاب المشاريع، سواء مشاريع مؤسساتيه أو فردية، هم الأكثر هدوءًا ونفعًا وتعاملًا مع الأزمات، تحل الويلات فيكونون أول من ينفض عن نفسه غبارها، بينما من لا يملك مشروعًا يغرق عند أول موجة، ويبقى يقاومها ويتتبعها ويشغل نفسه بها، وربما ذهبت وأتت أخرى أقوى منها وأشد وهو لا يزال يلعنُ الأولى التي أتت وولت، فلا يصرفه عما هو فيه إلا هدير الثانية، ثم لا تلبث أن تُلقي به بعيدًا، وهكذا يضيعُ بين موجة وأخرى، ولو صنع له زورقًا لكان قادرًا على اعتلاء ألف موجة!

ولهذا فإن أكثر الناس نواحًا وتشاؤمًا مع أي حدث هم الأقل نتاجًا في الغالب، فرديًا ومؤسساتيًا؛ وذلك لأنه يتألم مما يفعله الفاسدون، وزيادة ألمه عمن سواه ليس لأنه أغير أو أكثر همًا منهم، كلا، ولكن لأنه لا يعيش مشروعًا يعزي به نفسه ويرى فيه نتاجه، بينما غيره، ممن لديه مشروع، يتألم أيضًا ويحزنه تمكن الفاسدين وأهل الأهواء، ولكن ألمه لا يلبث أن يزول أو يخف؛ لأن لديه ما يستحقُ أن يبذل فيه طاقته، أو هو على الأقل راض عن نفسه عندما يرى بعض زرعه أمام عينيه مورقًا يانعًا.

الصالحون كلهم يتألمون عند رؤية المنكر وارتفاع صوت الباطل، لكن هناك من يبعثه الألم ويُحييه، ويجعله يبذل الطاقة في مشروعه الذي بين يديه، وهناك من يزيده الألم ضعفًا فيكتفي بالويل والثبور، وكأن القيامة غدًا، ونسي وصية نبيه صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرسها فليفعل»!

أيها المصلح، ابدأ غرسك من اليوم.

______________

المصدر: موقع الشبكة الإسلامية