العمل للدين واجب الجميع
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله طيبة مباركة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله عند كل نعمة.
والحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
وأشهد أن نبينا محمد عبد ورسوله، أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبع سنته واهتدى بهداه.
أيها الأحباب: لا بد أن أشكر بين يدي هذه الكلمة شيخي وأخي وحبيب قلبي، شيخنا جميعا أبو عبد الله عائض بن عبد الله حفظه الله وتولاه.
والذي أكرم بدعوته، ونزل بساحته، وأعار اليوم ظهر منبره.
وسعى لهذا اللقاء المبارك على ساحة الحب في الله.
فإن المتحابين في الله تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
ثم إن أخي الشيخ عائض رجل بليغ، وبين البلاغة والمبالغة سبب وثيق وحبل واصل.
ولذا فإني لن أكافئه ثناء بثناء، فالبيان ميدانه الذي لا يبارى فيه، ومضماره الذي لا يجارى فيه.
ولكني أكافئك أبا عبد الله ثناء بدعاء:
فأدعو الله جل جلاله أن يجزيك ويثيبك وأن يقر عينك بعز الإسلام و ظهور المسلمين، وقيام كلمة الحق ظاهرة تقر بها أعيننا جميعا.
وأن يكتب لك ما احتسبت وأن يجزيك عنا خير ما جزى عباده الصالحين.
أما هذه الكلمة فهي بعنوان (العمل للدين مسؤولية الجميع)
إنها القضية التي ينبغي أن لا نمل طرحها ولا نسأم تكرارها حتى تتجذر في القلوب وتتشبع بها النفوس، وتصبح حية في مدارك الناس حاضرة في واقعهم.
إنها قضية العمل للدين وأنها قضية كل مسلم حتى يصبح العمل للدين قضية ساخنة في حياة المسلمين، تواجهك في كل لفتة وفي كل فلته.
إنها قضية استنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها يوم نفرت كل أمة إلى رسالتها وعقيدتها.
إنها قضية إحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة.
إنها قضية تحريك الدماء في هذا الجسد الضخم من الملايين المملينة من المسلمين الجغرافيين الذين خبا لهيب الإيمان في حياتهم، فإذا هم كما وصفهم نبيهم (صلى الله عليه وسلم) غثاء كغثاء السيل.
إنها قضية جرد الحسابات لجهود شباب الصحوة الذين أشرقت بهم سماء الأمة بعد أن تكدرت سمائها بالقترة، فإذا بهم يتدفقون دفعات زاخة إلى مجالس الدعاة وحلَق العلم.
ثم نبحث عن جهودهم فإذا جهودهم لا يتناسب مع عددهم.
وعطائهم لا يتناسب مع هذا الجموع وقوة زخمها.
إنها قضية رفع مستوى العامة للإحساس بأن الأمة في أزمة وهي أزمة ضعف الإيمان.
نقف أيها الأحباب مع قضية العمل للدين وأتناولها في محاور خمس:
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة، وليس مسؤولية طائفة، بل هو مسؤولية ملقاة على كاهل كل مسلم.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
ثم أعود إلى هذه المحاور بشيء من التمثيل والتدليل.
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
هذه قضية كانت واضحة محسومة في عقيدة الجيل الأول، في عقيدة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم تلقوا هذا الدين غضا طريا من في محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
يوم كان أحدهم يبسط يده إلى اليد المباركة ليبايع محمدا (صلى الله عليه وسلم) على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يبيعه على غيرها، ثم يستشعر أن هذه البيعة قد ألبسته لباس الجندية ليعمل لهذا الدين.
وخذ هذا من خلال نماذج أعرضها عرضا سريعا:
قصة الطفيل بن عمر الدوسي رضي الله عنه حين جاء إلى مكة في أوليات الدين.
يوم كانت قريش تضرب حول هذه الدعوة سياجا شائكا من الحرب الإعلامية، والحرب الإعلامية تكتيك يمارس ضد الدعوة إلى دين الله ورسالات الله من القديم وإلى اليوم.
ونحن اليوم نرى نماذج للحرب الإعلامية القذرة الدنسة في الصحافة ضد الدعوة التي تدعو إلى تحكيم شريعة الله، فهي ترجم بالأصولية.
ترجم بالدعوة إلى قلب نظام الحكم في بلاد قلب فيها نظام الحكم فيها مرارا.
ترجم بالانتهازية، ترجم بأوصاف قذرة دنسة وأنواع من التهم المعلبة المستوردة.
هذا النوع من المواجهة كانت تسلكه قريشا قبلا، فليس غريبا على الداعين إلى الله.
كانت قريش تتلقى كل وافد إلى مكة، فتقول له:
( إنا نحذرك غلاما بني عبد المطلب، إنه يقول كلاما يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، أحذر ومن أنذر فقد أعذر).
تلقت هذه الدعاية الطفيل بن عمر فما زال به الجهاز الإعلامي القرشي الكافر حتى عمد القطن فوضعه في أذنيه، ودخل الحرم.
ويشاء الله أن ينفذ كلمات رسوله على رغم أنف قريش وعلى رغم القطن الموضوع في أذني الطفيل. فيسمعُ قراءةَ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) وهو يترسلُ بكلام الله الذي فلق سبع سماواتٍ حتى تعطرت به أنحاءُ مكة، فسمع كلاما لم يسمع مثله قبل.
فأقبل على نفسه يراجعها ويقول عجبا إنني رجل عاقل لبيب فكيف أعير عقلي غيري؟
آلا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه فإن كان خيرا كنت أحق به، وإلا فإني أعرف كلام العرب شعرها ونثرها وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال:
إني قد سمعتُ قولَ قومَك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَ ما عندَك، فعرض عليه الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) الإسلام وعلَمهُ القرآن، فأمن مكانه.
بإمكانِك أيها الأخُ المبارك أن تتسأل كم شُرع من شرائع الإسلام حين إذٍ، إنه التوحيدُ وشرائعُِ قليلةَ.
أسلم الطفيلُ مكانه ثم شعر بهذه المسؤولية للتو، فقال:
يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنى فأرسلني إليهم.
سبحان الله إن الرجلَ لم يتلقى الإسلام إلا الآن، ولكنَه شعرَ للتو أن هذه البيعةَ على الدخولِ في الدين تستوجبُ العمل له، فإذا به يتحولُ في مكانه داعيةٍ ونذيرٍ إلى قومه.
أرسلني إليهم إنهم قد كفروا بالله وفشا فيهم الزنى.
فأرسلَه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب إليهم خرجت الآية وإذا هي نور في وجهه، فإذا وجهه يضيء كأن في وجهه سراج، فقال يا رب يراها قومي فيقولون مُثلة، اللهم أجعلها في سوطي، فانتقلت إلى سوطه فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل.
وعرض الطفيل الإسلام على قومه فأسلم بعض قرابته واستعصت عليه عشيرته.
فماذا فعل؟
هل شعر بأن هذا أمر طبيعي لا يستثير وجدانه ولا يحرك وجدانه؟
كلا، فقد ثارت في نفسه الغيرة على الدين فعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشكو إليه الحال ويقول له بحرقة:
يا رسول الله إن دوسا قد كفرت بالله فأدعو الله عليهم.
فرفع النبي (صلى الله عليه وسلم) يديه الطاهرتين المباركتين التي ما دعت بإثم ولا قطيعة رحم وقال:
اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً.
والشاهدُ أيها المبارك من هذه القصةُ استشعارُ الطفيلِ رضي اللهُ عنه بمجردِ أن دخلَ في الدين مسئولية الدعوة إليه.
فمنذ كم دخلنا في هذا الدين وما مدى استشعارنا لهذا الأمر؟
سؤال ندع الإجابة عليه إلى أعمالنا وهواجس قلوبنا.
أبو ذر رضي الله عنه جندب بن جنادة أعرابي جاء من قبلة غفار ينشد الهدى مظنته، أبو ذر الذي إذا أخرج بطاقته الشخصية ليعرف بنفسه يقول: أبو ذر جندب بن جنادة ربع الإسلام.
كيف يكون أبو ذر ربع الإسلام؟
يعني أنه كان في يوم من الأيام ربع العالم الإسلام.
ليس على ظهر الأرض في علمه مسلم إلا أربعة نفر هو رابعهم.
هذا الذي أسلم رابع أربعة أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه البداية المبكرة للدعوة فأخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فأمره النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يغادر مكة لأن وجوده بين ظهراني المسلمين في مكة وهو غفاري ليس بقرشي يشكل عبأ على الدعوة، والدعوة لا زالت في بدايتها، فليلحق بقومه.
فماذا فعل؟ قال والله لا أخرج من مكة حتى أصرخ بها بين أظهرهم.
لقد كانت قريش تبني حاجزا ضخما من الصمت يحيط بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فإذا بأبي ذر الذي لم يحمل من الدين إلا التوحيد يستشعر أنه يتحمل مسؤولية تقديم عمل ما للدين، وليكن هذا العمل تحطيم حاجز الصمت الذي تبنيه قريش سياجا على دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فيصرخ بالتوحيد بين ظهراني قريش، وفعلا كان ذلك:
فإذا به يغدو إلى الحرم وقريش في نواديها فيه فيصرخ وهو الرجل الأيد الشديد الجهوري الصوت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ويدوي ندائه في مكة فتثور إليه قريش من أنديتها، تقع عليه، وقع عليه هذا الجمع كله.
فيثور إليهم العباس رضي الله عنه وهو رجل موصول العاطفة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه:
فخاطب في قريش حسها التجاري، فقريش قوم تجار فقال:
كيف تقعون برجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة ؟
والله لأن مسستموه بسوء ليقطعن عليكم الطريق إلى الشام. هنا توقفوا.
فقام أبو ذر بعد أن راء الهلكة بأم عينيه.
هل قام وهو يقول الحمد الله الذي أنجاني، أين راحلتي إلى أرض قومي؟ كلا.
قال لا أذهب حتى أصرخ بها غدا.
وفعلا يعود من الغد ويصرخ بها، ويثورون إليه كما ثاروا بالأمس.
ويثور العباس فيخلصه - وكان إذ ذات مشركا - وبالأسلوب ذاته " إنه رجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة فدعو الرجل يلحق بقومه.
ويخلّص أبو ذر، فهل قال لقد نجوت هذه المرة يوم خلصني العباس، وسألحق بقومي وقد أديت ما علي، والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين؟ نعم حمد الله ولكن بالتزام أن يعود ثالثة.
يقول البناءون: وجه واحد من البوية لا يكفي.
عاد أبو ذر ثالثا وليس على يقين أن العباس سيخلصه المرة الأخرى.
ولكنه على يقين أنه بعمله ذلك يقدم عملا إيجابيا للدعوة.
ولتنشق أذان قريش بالدعوة التي تحاصرها بالصمت.
وليعرف الناس سماع الشهادة، ونداء التوحيد، والخبر برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم).
فإذا به ينادي ثالثا فيثورون إليه ويقعون به فيخلصه العباس.
فيمم شطر قومه غفار، فماذا فعل عندهم؟
لقد بدأ بأسرته وقرابته فدعا أمه ودعا أخاه ثم هب إلى قبيلته يدعوها فاسلم نصفها.
أما النصف الأخر فقالوا:
أليس صاحبك (يعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) قد أمرك أن تذهب فإذا سمعت بأنه قد ظهر أن تلحق به؟
النبي الآن ثالث ثالثة ويقول لأبي ذر فإذا علمت أني قد ظهرت فالحق بي، اليقين.
قالوا أليس وعدك أنه إذا ظهر تلحق به؟ قال نعم.
قالوا نحن إذا ظهر آمنا لحقنا به، أما الآن فننتظر.
فلما ظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) آمنت غفار كلها فقالت بنو عمها قبيلة أسلم:
ليس بنا عما رغب به بنو عمنا غنى فأسلموا أيضا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
هذا الإنجاز تحقق على يد رجل اعتقد أنه ربع الإسلام.
ربع العالم الإسلامي في وقته لم يحمل من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا التوحيد، ولكن حمل مع التوحيد الاستشعار للمسؤولية اتجاه هذه الرسالة، واتجاه هذه العقيدة وأن دخوله لهذا الدين يستوجب العمل له.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محددا بزمان ولا مكان وإنما هو وظيفة العمر كلها.
فإذا كان الانتماء للدين يستلزم العمل له، فالعمل للدين وظيفة العمر.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله ورسوله والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:
( إني دعوة قومي ليلا ونهارا) ثم يقول:
(ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا).
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، كل ذلك سخر للرسالة آلف سنة إلا خمسين عاما. الحياة كلها دعوة، ليل ونهار، علن وإسرار.
ثم أرحل مع نبي من أنبياء الله ورسله يوسف عليه السلام:
يوسف الذي القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن.
أدخل السجن يوسف في قيوده.
يعاني في السجن لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، ومضاضة ظُلم ذوي القربى.
يعاني كل هذه الآلام ويكابدها في ظلمات السجن وثقل القيد، ولكن مع هذا كله، مع هذه المعاناة كلها لا ينسى أبدا دعوته وقضيته ورسالته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة.
يتبين لنا فيها براعة الداعية وحسن تأتيه فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:
( رأيتني أعصر خمرا ).
( رأيتني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه).
( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ). فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
أولاً يكرس حسن ظنهما به فيقول:
( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه وهي رسالة الله وعقيدة التوحيد فيقول:
( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
أسماء سميتموها ليس لها حقائق، حتى إذا كرس عقيدته وبين أنه بريء هو وأبوه وجده مما هم عليه وأنه أتبع الرسالة الخالصة الموحدة لله.
ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:
( أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا، وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
قضي بعد ماذا ؟
بعد أن ألقى عليهم محاضرة مملوءة بالأدلة والبراهين والتثبيت في التوحيد.
سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، ألم السجن، ألم الغربة، قهر الظلم، لوعة البعاد ومع ذلك تبقى قضية نبوته ورسالته وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.
بل إن أنبياء الله ورسله وكذا السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات وأشد الكربات كربا، وآلمها ألما، وأمضّها وأوحشها.
إنها أشد ساعة تمر بالإنسان منذ ولادته إلى مغادرته إنها ساعة الموت.
وهل ساعة أشد منها؟ وهل ساعة أعظم هولًا؟ وأكرب كربًا؟ وآلم ألما من هذه الساعة؟
ستفضي بك الساعةُ في بعض مرها……..إلى ساعة لا ساعة لك بعدها
هذه الساعة الموحشة المؤلمة الشديدة لا تنسي أنبياء الله ورسله دعوتهم وقضيتهم ورسالتهم لأن الدعوة وظيفة العمر كله، حتى في آخر لحظات العمر.
تبقى الدعوة والرسالة والعمل للدين حية لا تموت وهم يموتون.
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته.
حاله وهو يموت كيف مات من كان عنده؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا:
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) وبنوه حولَه فماذا فعل؟ وماذا قال ؟
( إذ قال لبنيه ) ماذا قال لهم؟
الأموالُ كيف تجمعونها ؟
القصورُ كيف تبنونها ؟
الثروات كيف تكدسونها أم التركة كيف توزعونها ؟
أم الزروع كيف تزرعونها ؟
كلا ليس شيء من ذلك ولكن هم الدين وقضية التوحيد:
( ما تعبدون من بعدي ).
هذا الهم الذي بقي يقضا في قلبه وهو يودع الدنيا، ( ما تعبدون من بعدي ).
وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومةِ أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم.
ولكن الهمُ اضخم في القلب ( ما تعبدون من بعدي ) ؟.
ويجيء الجواب الذي يقر عينه:
( نعبدُ إلهك والاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
ثم انظر إلى حالِ نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا (صلى الله عليه وسلم) :
الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
بعد هذه المسيرةِ الحافلةِ في بلاغ رسالات الله، وبعد أن اعذر إلى الأمة بأنه قد بلغها دينها وأدا إليها الأمانة التي أتمن عليها، تهي للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
فإذا به في أخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية وهو متغطي بها (صلى الله عليه وسلم)، ويقول ابن مسعود :
( يا رسول الله إنك لتوعك كما يوعك رجلان منا، قال نعم ذلك أن لي أجر أثنين).
وحتى كان الماء يحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقرب يصب على بدنه ليطفئ استعار الحمى في بدنه.
بدنُ استعرت فيه الحمى وأنهكَه المرض، وانهزمت فيه العافية.
ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة وهم الرسالةِ والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.
ولا يخبو في البدن الذي أنهكه المرض، فإذا به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يذكرُ هم أمته ورسالتِه في أخرِ يومٍ يعيشُه على الدنيا.
إذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرجَ إلى الأمةِ يومَ الاثنين، اليومَ الذي مات في ضحوته.
إن شئت فقل في أخرِ ساعاتِ حياته، يخرج يتفقدُ أمتَهُ!
أين تفقدها في الأسواق؟ كلا
تفقدها وهي تصلي لله في أخرِ فرضٍ تصليه أمةُ محمد (صلى الله عليه وسلم) ونبيُها حيُ على الأرض.
يتحاملُ (صلى الله عليه وسلم) على الجسدِ الواهن الذي انهزمت فيها العافية وأنهكه المرض.
يتحامل عليه لينظر أمته وهي تصلي نظرةَ وداعٍ يتفقد فيها دينها وصلاتها وأعظم أركان الدين بعد التوحيد.
خرج (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين وهم يصلون خلف ذلك الرجلِ الطيبِ المبارك الخاشع أبي بكرٍ الصديق وهو يقف في موقف الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) يقطع القرآن ببكائه.
والصحابةُ يخيمُ عليهم جو من الحزنُ والوجوم لغيابِ رسولِ (صلى الله عليه وسلم) خمسة أيام عن محرابه الذي طالما وقف فيه يقطع آيات القرآن.
فما فجعَهم وهم وقوف إلا وسترُ حجرةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يرفع و إذا بالواقف محمدُ (صلى الله عليه وسلم) ، الذي غاب عنهم خمسةَ أيام تحت وطأة المرض، إذا به واقفُ يتحاملُ عل جسدِ منهك بالمرض.
ينظر إليهم فماذا رأى، رأى أصحابه وقوفاً كما علمهَم، خشوعاً كما أدبَهم، مطرقين خشوعا لأدب القرآن، وموقف الصلاة، فرأى (صلى الله عليه وسلم)، المنظر الذي ابتهج به قلبُه وقرت عينُه، واطمأنَ إلى أن رسالَته في أيدٍ أمينةٍِ و أن أمتَه واقفةُ على الصراطِ الذي رسَمهُ لها.
فإذا بالوجه الشاحبِ من المرض يطفحُ عليه البشر والسرور، فيتهللُ بإشراقةِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ما رأى الصحابةُ منظراً كان أعجبَ إليهم منها، حتى قال أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه:
(ما رأينا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجهِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، حينَ نظر إلينا يضحك كأن وجهَهُ ورقةُ مُصحف).
(صلى الله عليه وسلم) إنه الهمُ للدين والتفاعلُ مع الدين يطفحُ فرحاً وسروراً على وجهٍ أنهكه المرضُ وشاحب بالألم.
وكاد الصحابة أن يفتتنوا بهذا المنظر، فإذا بالصفوف تنشق لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليتقدم إلى محرابه الذي طالما وقف فيه، فإذا به يشير إليهم أن أتموا صلاتكم.
ويرخي ستر حجرته فكانت أخرَ رؤية رآها الصحابةُ لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم).
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) إذ كنا نقول أنه حملَ الأمةِ في أخرِ ساعاتِ حياته.
فإننا نقولُ الآن إنه حملُ هم الأمة في أخرِ لحظاتِ حياته.
إذا به (صلى الله عليه وسلم) ينفقُ أخرَ الأنفاسِ وأخرَ اللحظاتِ وأخر الثواني نصحا للأمة ونداء للأمة لا ينسى هم أمته وقضيته ورسالته.
نزل به الموت فاشتد به الكرب حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
( ما تمنيت يسر الموت لأحد بعد ما رأيت من حال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) لشدة وقع الموت عليه.
كان يدخل يده في الإناء الذي فيه الموت ثم يمسح وجهه ويقول:
( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على هذه السكرات ).
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته ولا عن عقيدته ولا رسالته ولا أمته فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ وترويه الدنيا في أخر لحظاتِ عمره، ينادينا نداءً شق حُجبَ الزمن حتى أسمعنا:
( الله اللهَ الصلاة الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم ) حتى حشرجَ بها صدرُه وغرر بها حلقُه واحتبسَت بها نفسه. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات وآخر أنفاس الحياة.
هذا شأن أنبياء الله ورسله وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر، فقهه وثقفه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوما منها مهدرا ليس فيها عمل للدين.
وخذ مثالا واحد على ذلك جعفر أبن أبي طالب أبن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
قضي نحوا من إحدى عشرة سنةً في المنفى في دار البغضاء البعداء في الحبشة.
لم يأخذ أثناءها إجازة عرضية ولا مرضية ولا اضطرارية ، بقيَ إحدى عشرة سنةً متواصلةً يعاني ألم الغربة ولوعة البعاد كلُ ذلك في ذات الله حتى إذا حانت الفرصةُ عاد في السنةِ السابعةِ للهجرة.
عاد في السنة التي فتح فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر، وما يدريك ما فتح خيبر ؟
فتح خيبر كان بداية غنى للمسلمين، ما عرفوا الشبع إلا عندما فتحت خيبر.
فتحوا خيبر فكانت عزا للإسلام وفتحا للمسلمين، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يصف فرحة لقائه بجعفر فيقول:
( لا أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ).
فرح النبي (صلى الله عليه وسلم) بقدوم جعفر فرحا شديدا حتى إن فرحه به يساوي فتح خيبر.
ولكن بما كافأ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) هذا القادَمَ المولعَ بالغربة والبعاد، الذي أعطى للدين عشر سنواتً من الغربة لوعة وأسا، بما كافأه؟
هل أصدر مرسوما كريما بتعيينه أميرا على البلدة الفلانية؟
أم أصدر أمره السامي بتعيين المخصصات التالية: أولا قصر، ثانيا مخصصات شهرية منتظمة. ثالثا كل متع البلاط ثمنا للغربة والبعاد من اللوعةِ والغياب والغربة.
هل اصدر أوامره بأن يمنح جعفر إجازة لبقية العمر فقد قدم ما عليه، وأدا للدين ما يكفي تقديمه وأداءه ؟
كلا، كلا! كافأه مكافأة من نوع آخر. ما هي؟
كافأه بأن أتاح له الفرصةً مرة أخرى ليعمل للدين ويقدم للدين.
هذه المكافأة التي يحسنها (صلى الله عليه وسلم) ويبتهج بها أصحابه.
فإذا به يعين في منصب النائب الأول للقائد الأعلى للقوات المسلحة المتوجهة إلى مؤته.
ويذهب حفيا بهذا المنصب، فرحا بفرصة المشاركة للعمل للدين، فحياته كلها أوقفت لله.
ليس فيها يوم يسمى إجازة من العمل للإسلام.
ويحدث له هناك العجب!
يقتل القائد الأعلى زيد ابن حارثة.
فتتحول المسؤولية إليه، فينزل عن فرسه فيعقرها فكان أول عقر في الإسلام.
ثم يتقدم والراية في يمناه، ينشد نشيد الداخل في الجنة:
يا حبذا الجنة واقترابها……طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنى عذابها……علي إن لاقيتها ضرابها
فتقطع يده اليمنى، فيتلقف الراية باليد اليسرى، فتقطع فيحتضنها بيديه، تنوشه الرماح، تقطعه السيوف، تضربه السهام، وكل ذلك وهو صابر لتبقى الراية مرفوعة.
حتى يتقدم منه جندي رومي فيقده بالسيف نصفين.
ثم يصف لنا عبد الله أبن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري مشهد تلك الجثة المعطرة وذلك الإهاب الممزق فيقول:
( وقفت على جعفر يوم مؤتة وإن في جسده لبضعا تسعين ضربةً ليسَ بها واحدةُ في قفاه)
بضعا وتسعين ضربة كلها يتلقاها مقبلا غير مدبر، لم يعرف العدو له قفا ولا رأى له ظهرا.
إنها حياة عاملة للدين لا تعرف هدنة في المواجهة مع كل عدو للدين.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة معينة:
من شبه الشيطان التي يرجف بها على كثير من المسلمين أنه يلقي في روعهم أنهم ليس من الفئة التي تعمل للدين، العمل للدين مسؤولية أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة.
العمل للدين مسؤولة الهيئات ورئاسات الإفتاء ومجموعة من الدعاة ذوي العمل الدعوي الجماهيري.
أما أنت فمصدر للتلقي يكفيك أن تصلي الصلوات الخمس، وتصوم رمضان وتحج البيت في العمر مرة.
هكذا يرجف الشيطان على البعض موسوسا:
ثم إنك تذكر يوم كذا وكذا ماذا فعلت ؟
ألا تذكر غدرتك؟
ألا تذكر خطيئتك؟
ألا تذكر ذنبك، أمثلك مؤهل لأن يعمل للدين بكل هذه الأقذار بكل هذه الخطايا، بكل هذه الذنوب؟
فما يزال الشيطان يلقي عليه قصيدة في هجائه، حتى يستشعر أنه ليس من الفئة التي تعمل للدين، إذ ليس هو أهلا لذلك.
أيها الأخ المبارك:
إن العمل للدين ليس مصنفا إلى شرائح وفئات.
فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين، مهما كان عليه، ومهما كان فيه من خطئ ومهما اعتراه من تقصير فينبغي أن لا تضيفَ إلى أخطائِك خطاءً أخرَ وهو القعود عن العمل للدين.
وينبغي أن لا تضيف إلى ذنوبك إن كنت استوحشت من ذنوبك ذنبا آخر وهو خذلان العاملين للدين.
فأعمل معهم، فلعلَ عملك لدين أن يطفئ حرارة الذنوب وتكاثر السيئات.
وخذ لذلك مثالين أثنين أعرضهما عرضا سريعا:
أولا كعب ابن مالك:
ذلك الصحابي ارتكب خطاء بأنه لم ينفر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والله يأمرهم أن ينفروا معه يقول:
( مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله، اثاقلتم إلى الأرض ).
وقفل النبي (صلى الله عليه وسلم) راجعا من المعركة فجعل كعب يزوق في خاطره كلاما، ويجمع في نفسه أعذارا ليعرضها على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند المسائلة التي كان موقنا أنه سيُساءلها.
وإذا به يجد نفسه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستقبل هذا السؤال: يا كعب ما خلّفك؟
وإذا بكل هذه الأعذار تتبخر، وإذا بكل هذا الكلام يتلاشى، وإذ به لا يجد إلا الصدق.
فيقول يا رسول الله لم يكن لي من عذر.
فيجئ به حكم الله أن يخلف، فيقاطع لا يكلم فكانت حاله كما وصفها الله:
( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم).
كان يتقلب في الأسواق لا تفرج له شفة ببسمة، ولا تنبس له شفة بكلمة، حتى قال تغيرت علي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، وتغير علي الناس فما هم بالناس الذين أعرف.
وهذا موقف – أيها الأخ الحبيب- لم نجربه، لكن لو جربناه لوجدناه موقفا قاسيا بالغ المرارة أن يتقلب المرء بين الناس فلا يجد من يرد عليه سلاما أو يفضي إليه كلاما.
وحمل كعب مرارته كلها إلى أحب الناس إليه، ابن عمه أبا قتادة رضي الله عنهما.
فتسور عليه الحائط ودخل عليه في بستانه، ولم يكن هناك رصد من المباحث يسترقون السمع أبدا.
ولم تكن هناك أجهزة للاستخبارات تطلع على الموقف.
كان هناك اثنان فقط أبو قتادة وكعب رضي الله عنهما كل منهما يصف الأخر بأنه أحب الناس إليه، أقبل إليه كعب تلقاء وجهه يقول السلام عليك ورحمة الله وبركاته ي أبن عم.
قال كعب: فو الله ما رد علي السلام.
فإذا بالمرارة تتكسر في صدره حتى أصبح مع نفسه في صراع مرير، فإذا به يواجه أبا قتادة ويقول:
يا أبا قتادة أنشدك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟
فيجيبه أبو قتادة جوابا مجردا حافا جافا ليس فيه أي كلمة من فضول:
يقول ( الله ورسوله أعلم ). قال كعب: فاستعبرت عيناي وحق له أن يبكي.
هل تصورنا الآن هذا الظرف النفسي الذي يعيش فيه كعب.
وفي وسط هذه المحنة والمرارة يأتي إليه رسالة ملكية ممن ؟ من ملك غسان.
وقد كان شعراء المدينة وفي مقدمتهم حسان رضي الله عنه يذهبون إلى ملك غسان يمدحونه بالقصائد الطوال ليحضوا منه بلفتة أو صلة.
إذا به يرسل رسالة إلى كعب يأتي بها مندوب خاص يسلمها إليه فيقرأها كعب فإذا نص الرسالة كالتالي:
( إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة، فالحق بنا نواسك ).
الحق بنا لتعين ضمن الحاشية في البلاط، تتمتع بكل ما في بلاط الملوك من لذة، بكل ما في بلاط الملوك من شهوة، بكل ما في بلاط الملوك من ترف، تتمتع بكل مميزات البلاط، وتكون خدينا للملك.
الحق بنا لتنال المخصصات والجوائز والصلاة، الحق بنا نواسك ونعوضك عن كل هذه المقاطعة التي تعيشها، فماذا قال كعب لحامل الرسالة:
هل قال انتظر إلى الغد حتى أفكر في أمري؟
أم قال انتظر حتى أصلي صلاة الاستخارة ؟
أم قال انتظر حتى أستشير ذوي الرأي من أهلي ؟
أم قال انتظر حتى أنظر ما ينجلي عليه الأمر، فإما أن نبي الله أنهى المقاطعة وبقيت في قومي، وإلا نظرت في أمري؟
لم يجب بأي جواب من هذه الأجوبة، ولكن استرجع وقال:
إنا لله و إنا إليه راجعون لقد طمع بي رجل كافر.
الولاء للإسلام، الولاء للإسلام الذي لا يهن حبله ولا تخبو ناره مهما قست الظروف وكلحت الأيام واشتدت المصائب يبقى الولاء للإسلام أعظم من هذا كله.
أعظم من كل محنة وأقوى من كل إغراء وأشد من كل مواجهة.
لقد طمع بي رجل كافر، فما هو حق الرسالة ؟
تحفظ في الأرشيف ؟ كلا ، تحفظ في التنور وهو مشتعل، يقول كعب:
فسجرت بها التنور ولأتحمل لوعة المقاطعة وأسى الهجران وألم النظر إلى وجوه لا تتكلم، وشفاه لا تتبسم. أتحمل كل ذلك ما دمت موصولا بالله، أحتفظ بشرف الانتماء إلى هذا الدين.
أليس هذا درسا لكل صاحب خطيئة ولكل مقارف ذنب أن انتمائه للإسلام أقوى وأعظم وأشرف وأزكى عند الله من كل سبب في الأرض ونسب فيها ؟؟ بلا.
ثانيا قصة أبي محجن الثقفي:
قصة عجب من العجب، هذا الرجل يوجه رسالة إلى كل رجل من المسلمين، إلى كل الذين يظنون أن مقارفة بعض الصغائر أو الوقوع في بعض الكبائر يعطيهم إجازة من العمل للدين مفتوحة إلى يوم الدين، كلا.
أبو محجن رجل ابتلي بإدمان الخمر، فكان لا يقلع منه ويؤتى به فيجلد ثم يعود ثم يجلد ثم يعود، ولكنه لم يفهم أن إدمانه للخمر يعطيه عذرا ليتخلى عن العمل للدين.
فإذا به يحمل سلاحه ويسير مع الموكب المتيمن صوب القادسية ليقاتل هناك الفرس وليرفع لا إله إلا الله، وليقدم دمه بسخاء للا إله إلا الله.
وهناك يقع بالمطب مرة ثانية، يشرب الخمر وهو مع الجيش.
ويؤتى به إلى سعد رضي الله عنه ثملا.
إن لله وإن إليه راجعون، جندي على مشارف القتال يؤتى به سكران، ما هي عقوبته؟
عقوبته يحرم من المشاركة في المعركة، هو ما جاء من أعماق الجزيرة إلا ليقدم دمه ثمنا للا إله إلا الله، ومع ذلك يسكر، إذا عقوبته جزاء له وردعا لأمثاله لا يشارك في المعركة.
وكانت هذه عقوبة أليمة، ليست عقوبة تعطيه عذر وسلامة من آلام القتال وأخطار الموت.
وتصطف الجيوش للمواجهة وقد كان موقع القائد، كان مسرح لعمليات في وسط المعركة، لم تكن غرفة العمليات ولا مسرح العمليات في أماكن نائية بعيدة عن كل خطر محتمل.
فقد كان المسلمون يحرص قادتهم على الشهادة أكثر من حرس الجنود، ولم تكن الشهادة من نصيب الجندي أبو شريط وأبو شريطين، بل من نصيب القائد الأعلى أولا.
فإذا بسعد ينتظر أن يشارك في قلب المعركة، ولكنها يبتلى رضي الله عنه بالقروح في جسده فلا يستطيع أن يثبت على الخيل، فتوضع له مقصورة يدير منها العمليات عن بعد.
ومع ذلك لم يسلم من عتب بعض المسلمين عليه، حتى قال أحدهم يصف انتهاء المعركة:
وعدنا وقد آمت نساء كثيرة……ونسوة سعد ليس فيهن أيّمُ
عدنا ونسوة كثير قد ترملت من أزواجهن، أما نسوة سعد فابشروا فسعد بخير وعافية، مع أن الذي أقعده عن المشاركة المرض، لم يقعده شيء آخر.
وبدء القتال، فقعقعت السيوف، وضربت الرماح، ووقعت السهام وهزمت الخيل، وثار غبار المعركة وعلت أصوات الفرسان، وفتحت أبواب الجنة، وطارت أرواح الشهداء، وأبو محجن يرى ذلك كله فتحركت أشواقه للموت وللشهادة وللقتال فوثب ليشارك فقال له القيد في رجله:
مكانك، محكوم عليك بعدم المشاركة لأنك شربت الخمر، فعاد وقد تكسرت أشواقه في صدره، وعانى في داخل صدره ألما ممضا أن تبدأ المعركة وليس له نصيب فيها، فيعبر عن هذه الآلام بأبيات يقول فيها:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنى……وأترك مشدودا إلى وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلّقت…….مصارع دوني قد تصم المناديا
وترى امرأة سعد هذا المشهد، فيقول لها:
يا سلمى فكي قيدي وأعطيني فرس سعد وسلاحه، فإما أنا رجل قتلت فاسترحتم مني، وإلا والله إن أحياني الله لأعودن حتى أضع رجلي في القيد.
وفعلا تفك قيده وتعطيه فرس سعد وسلاح سعد، فإذا بميدان المعركة يشهد فارسا يكر فيها يضرب ضرب المتحرف للقتال الذي جرب ألم الفطام منه. فيعجب سعد ويقول ما أرى:
الضرب ضرب أبي محجن والكرُ كر البلقاء (فرس سعد)، ولكن أبا محجن في القيد والبلقاء في الاسطبل.
وتنتهي المعركة ويأتي قواد المعركة يقدمون التقارير لسعد، فإذا به يسأل من الفارس الذي رايته كأبي محجن ضربا على فرس كالبلقاء؟
ويأتيه الجواب من سلمى ذلك أبو محجن وتلك البلقاء، أما كان في القيد؟ بلا ولكن كان من شنه كذا وكذا.
فيكبر سعد رضي الله عنه هذا الموقف، ويقوم خال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي محجن يفك بيديه الطيبتين القيود من رجل أبي محجن ويقول: قم فو الله لا أجلدك في الخمر أبدا. فقال أبو محجن، سبحان الله لا أجلد في الخمر؟
كنت اشربها يوم كنت أطّهر بالجلد، أما الآن فو الله لا أشربها أبدا.
وكيف يجرئ أن يشربها وقد جرب عقوبتها التي كانت الحرمان من المشاركة في العمل للدين.
فهل نفقه نحن بكل أخطائنا وعيوبنا ونقائصنا أن كل ذلك لا يؤهل لأن ندع العمل للدين، بل ينبغي أن يخز قلوبنا بأن علينا أن لا نضيف ذنبا آخر وتقصيرا آخر وهو ترك العمل للدين.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
يفاجئك كثير من المسلمين حينما تطرح عليه هذه القضية أن يتساءل أنا ما دوري ؟
فلستُ بالعالم فأفتي الناس.
ولا بالخطيب فأخطب بالناس.
ولا بالداعيةِ فأدعُو الناس. ما دوري ؟
والجواب أنه ينبغي أن نزيلَ من أذهانِنا وهماً كبيراً وهو أن العملَ للدين هو العملُ الجماهيري فقط، العمل للدين في الخطبِ والمحاضرات والندوات ومجالس الإفتاء وبرنامج نور على الدرب. كلا.
العملُ لدين أدوارٌ كثيرةُ، ومسارب الدعوة بعددِ أنفاسنا.
أيها الأخ الكريم ألا رأيت إلى ذلك الطائرُ الأعجم الهدهد.
الذي كان يعيشُ في كنفِ سليمانَ عليه السلام، ذلك الرسول وذلك الملك الذي سخر اللهُ له الريحَ، وسخر له الجن، وأتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العلمين.
لم يقل الهدهد ما دوري أنا بجانبِ هذا الرسول ؟
ما دوري أنا بجانبِ هذه الإمكانات ؟
ماذا أفعل يكفي أن أبقى طائراً في حاشيةِ الملك، كلا.
لقد جاء هذا الطائرُ إلى نبيِ اللهِ سليمانَ يخاطبه بكل ثقةٍ يقول:
( أحطتُ بما لم تحط به )، ثم يصف إنجازه فيقول:
( وجئتك من سبا بنباءٍ يقين، إني وجدتُ امرأةً تملِكُهم و أتيت من كلِ شيء، ولها عرشُ عظيم )
ما هي المشكلة:
( وجدتُها وقومَها يسجدون لشمسِ من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ).
ثم يلقي خطاباً استنكارياً قائلاً : ( ألاْ يسجدوا لله الذي يخرج الخبو في السماوات والأرض ).
فإذا كان هذا الهدهد قد وجد له دورا، افتعجَزُ أنت بما آتاك الله من ملكات وقدرات أن تجدَ لك دوراً في خدمة هذا الدين والعمل له؟
ثم أنظر إلى ذلك الرجل الذي أخبرنا الله خبره، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وفي المدينة ثلاثة رسل، أرسل الله إلى تلك المدينة ثلاثة رسل، ليس واحدا ولا أثنين بل ثلاثة.
ومع ذلك لم يقل هذا الرجل ما دوري بجوار ثلاثة من رسل الله. فجاء كما أخبر الله:
( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم أتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)، فلم يفهم هذا الرجل أن وجود ثلاثة من رسل الله في ميدان واحد يعذره من الدعوة إلى الله، بل دعا مع دعوة ثلاثة رسل.
فوجود الدعاة في الساحة، ووجود العاملين في الساحة، لا يعذرك في القعود، بل يوجب عليك مسؤولية التعاون معهم ونشر دعوتهم وحمل رسالة الله ورسالة أنبياء الله التي يبلغونها.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
التي يمكن أن يقوم بها كل أحد وأن يقاس غيرها عليها، أذكرها سردا سريعا:
- الاهتمام والتوتر العاطفي:
هل بحثت داخل همومك وعواطفك عن هم الإسلام بينها ؟
كم تساوي مساحته في خارطة عواطفك واهتماماتك ؟
هل نلقاك في يوم من الأيام مشرق الوجه منطلق الأسارير يطفح البشر على محياك، ويفيض السرور على وجهك، فنسألك:
ما الذي سر خاطرك وأبهجك ؟
أنجحت في دراسة ؟ فتقول لا.
فنقول بارك الله عليك تزوجت ؟ فتقول لا.
فنقول لعلك كسبت في صفقة تجارية ؟ فتقول لا.
أبدا ليس شيء من ذلك ولكني فرحت بعز للإسلام سمعت به فهو الذي أفرحني.
هل نلقاك يوما مبتئسا كاسف البال حزينا مهموما، فنسألك:
أخسرت في تجارة ؟ أو رسبت في مادة؟ أو مات لك قريب؟ فتجيب :
أبدا ليس شيء من ذلك ولكن آلمني وأغضبني وأحزنني أن حرمة من حرمات الله انتهكت.
أفلا يحزنني ذلك ؟ بلا والله يحزن وتنفت له القلوب كمدا إذا كان فيها حياة.
يقول سفيان الثوري رحمه الله:
( إن كنت لأرى المنكر لا أستطيع تغييره فأبول دماً )، تنفت كبده حرقة.
ليس الإنكار في القلب أمرا سلبيا مجردا، ولكن أن تذوب حشاشات النفس كمدا على حرمات الله أن تنتهك.
- هل يوجد هم الدين وقضيته في دعائك ؟
عندما تضع جبينك في الأرض تهاتف الله بدعائك ومسألتك وحاجاتك، لا يسمع أحد من خلق الله بنجواك وشكواك ودعائك إلا الله، لا يسمع بها إلا ربك، فإذا تذكر قضيتك وهمك والرسالة التي تعيش لها فتذكر دينك، فترفع إلى الله في سجودك الدعاء:
بأن يعز الإسلام وينصر المجاهدين.
ويؤيد الدعاة الصادقين ويخذل ويكبت كل من ناوأ الدعوة وكل من حاصر الكلمة وكل من وقف في وجه رسالة أنبياء الله.
هل رفعت إلى الله هذا الدعاء في سجودك؟ هل رفعته إلى الله وأنت باسط يديك في أدبار الصلوات ؟
أيها الأخ المبارك، إن الله يقول: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء ).
فهل بعد هذه الضرورة التي تعيشها أمتنا ضرورة؟
وهل بعد هذا السوء الذي تعايشه الأمة سوء ؟
ومن الذي يكشفه غلا الله، ومن الذي يجيب ضرر هذه الأمة فيرفعه إلا الله.
النصارى أمسكوا بمقاليد أمتنا اليوم.
فإذا هم أولياء أمورنا، مصالحنا بأيديهم، قضايانا أوراقها في أيديهم.
اليهود الذين لم تقم لهم دولة
منذ آلاف السنين تجمعوا اليوم وأقاموا لهم دولة في أحضان أمتنا.
الرافضة مجوس هذه الأمة.
الذين عاشوا ألم القهر والخسف سنينا عددا وعقولا طوالا، إذا بهم اليوم يرفعون رايتهم ويستعلنون بدعوتهم ويمدون قضيتهم وعقيدتهم الكاسدة الفاسدة في أماكن من عقر دار الإسلام وعقر التوحيد حتى استعلنوا على صعيد عرفات بلعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أبعد هذه ضرورة ؟
أبعد هذا السوء سوء؟.
فهل صدعنا السماء بالدعاء ؟ إن هذه الأمة لا تخلوا من عبد صالح لو أقسم على الله لأبره.
ولكن هل ضججنا بالدعاء ؟ هل حظر هم الدين وقضيته في دعاءنا؟؟
- توزيع الأشرطة والكتيبات.
هل عمدت أيها الأخ المبارك إلى راتبك فإن كان راتبك بالمئات أخرجت منه بالريالات، وإن كان راتبك بالألوف أخرجت منه بالعشرات، ولكن يكون موردا منتظما، تذهب إلى مكتبة التسجيلات لتشتري شريطا تنتفع به، فتذكر أنك صاحب دعوة وصاحب قضية فتقول:
هذا الشريط لي، ولكي داعية فأشتري شريطا آخر للدعوة من المصروف الثابت الذي عينته لذلك، كم شريطا سيوزع وكم كتبا سيوزع في مجتمعنا؟
إن اضخم شركة نشر ستعجز عن تضاهي هذا المجهود لو وجد في حياتنا.
- حلق تحفيظ القرآن الكريم.
هل تنادى لها شباب الصحوة ؟ الذين يتساءلون دائما، ما دورنا؟ هل انتدب لها فئام منهم فقالوا بلسان حالهم ومقالهم، سنكفي الأمة هذه الثغرة وعلى بقية الشباب أن يكفونا ثغرات أخرى.
فأقمنا حلق القرآن التي يوجد فيها الشباب الصالح الناصح الذي يعلم فتيان المسلمين القرآن.
القرآن وتعظيم من انزل القرآن.
القرآن وحب من جاء بالقرآن.
القرآن والولاء لأهل القرآن.
القرآن والبراءة من أعداء القرآن.
وإذا بنا نمارس خطة بعيدة المدى، بطيء لكنه فعال، فنجد أنفسنا بعد سنوات ندفع إلى الساحة بمئات الحفظة وعشرات من العلماء والفقهاء.
إننا قد تخلينا مع الأسف معاشر الشباب عن هذا الواجب، وعهدنا به إلى أخوة لنا يقوم حاجز اللغة بينهم وبين هذه الرسالة، أتينا بالعجمان من أنحاء شتى ليعلموا أبناءنا القرآن.
فعلموهم القرآن حروفا ولم يعلموهم القرآن قضايا. وهذه مسؤولية نتحملها.
- مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
هل استشعرنا هذا الأمر، وأنه قضيتنا جميعا، وليس مسؤولية الرئاسة أبدا.
إنه مسئوليتنا جميعا بتكليف من الله جل جلاله، فإذا بالأمر بالمعروف يصبح واقعا حيا ملموسا في الحياة لا يحتاج إلى إن ولا إلى استئذان سلاحنا فيه الكلمة الطيبة، والكلمة الناصحة التي هي أحسن، وهي بضاعتنا وهي سلاحنا.
حين إذ سنجد أصحاب المنكرات يستخفون بمنكراتهم ولا يعلنونها، لأن الكلمة الناصحة والدعوة الخالصة تحاصرهم وتضيق على منكرهم.
- توزيع النصائح الكتابية.
النصائح الكتابية إلى أصحاب المنكرات خصوصا أصحاب المنكرات العلنية:
أصحاب مكتبات الفيديو.
أصحاب البقالات التي تبيع الدخان، والمجلات الخليعة
أصحاب المكتبات التي فيها الكتب المنحرفة، والمجلات المدمرة.
هل تواصلنا معهم بالرسائل الناصحة، وأنتدب الشباب إلى استكتاب العلماء النصائح التي تفيض بالأخوة والمحبة والولاء ثم قاموا بتوزيعها إليهم.
فإذا بصاحب المنكر يتلقى خطابا باسمه الشخصي يخاطب فيه إيمانه ومحبته لله ولرسوله ويناشده أن يكفي الأمة هذا الدمار الذي بتاجر فيه.
إن هذا لو وجد لكان نوعا من الدعوة يحاصر المنكر ليقضي عليه.
- دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
كم منا الذين يجيدون اللغات الأجنبية، ويتلمظون بكلماتها وبين كل ثلاث كلمات كلمة أجنبية، ثم يسال بعد ذلك ما دوري أنا فلست متخصصا حتى أخدم الإسلام؟
هل دعوة يوما من الأيام واحدا من غير المسلمين الذين تمتلئ بهم الشركات والمؤسسات والإدارات الحكومية؟
إنها أيها الأخوة فاحشة نقارفها عندما يأتي فئام من غير المسلمين، ويبقوا عندنا سنينا عددا، ثم يعود أحدهم ولم يسمع يوما واحدا شخصا واحد يدعوه إلى الإسلام.
ولذلك ( ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا )، عندما لم ندعوهم دعونا.
فرأينا النشرات التنصيرية والصلبان توزع على أبناء المسلمين في اللغة العربية وفي هجر نائية من قبل القوات المشتركة المشاركة في حرب الخليج.
أما نحن فدورنا في الدعوة مع الأسف لا زال دورا كسيحا، إنك تفاجئ عندما تسمع عن إسلام مجموعة من نصارى شرق أسيا، وتسأل كثيرا منهم هل دعاك أحد للإسلام؟
هل عرض عليك أحد الإسلام؟
فيقول لا ولكن فكرت فاهتديت أو رأيت منظرا فأعجبني.
ولقد عجبت عندما أخبرني أحد الأحباب المهتمين بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام عن قصة إسلام شخص من الفلبين، قال له من دعاك إلى الإسلام؟ قال لا أحد.
قال ما رغبك في الإسلام؟
قال مررت بمسجد كانت دورة المياه خارجه، فرأيت شخصا يتوضأ فيغسل رجليه، فقلت هذا دين نظيف الذي يغسل أصحابه حتى أرجلهم. فاهتممت بالإسلام.
هذا المنظر الساذج البسيط كان سببا بهداية شخص، فما بالكم لو نفر فئام منا إلى هؤلاء فكاثروا عليهم النشرات ووزعوا عليهم المطويات، حتى من لم يسلم منهم على الأقل ثارت الشبه في فهمه، أو على الأقل قانت عليه الحجة.
- زيارة الشباب في أماكن تجمعهم.
هناك أماكن يتجمع فيها الشباب مثل الشواطئ والأرصفة والمنتزهات (والاستراحات) يتجمع فيها جموع من الشباب أسنانهم متقاربة، هوايتهم متقاربة من إخواننا الذين نحبهم ونرثي لحالهم ونشفق عليهم إذا رأينا طول غفلتهم.
هذه الفئات من المجتمع تحتاج منا إلى اختراق، أن نخترقهم وأقول عن تجربة أننا وجدنا كثيرا منهم ذوي معادن ثمينة ولكن علاها الصدى، فما أن تحك الصدى عنها حتى يتكشف لك معدن ثمين.
فهل قمنا بواجب اختراقهم وزرناهم في أماكن تجمعهم، بالسلام وطيب كلام وإهداء كتيب أو شريط.
إن هذا العمل سيكون عبارة عن اختراق تجمعات لا زالت تنظر إلى الشباب الصالح على أنه فئة مُغلقة على نفسها.
- الاستفادة من العلاقات الاجتماعية.
فالعلاقات الاجتماعية ( في مجتمعات المسلمين ) متميزة فلكل منا أعمام وأخوال وأرحام وأصهار وأزواج بنات وأزواج أخوات، كل هؤلاء تشبكه بهم علاقات متشابكة.
هل استغللنا هذه العلاقات وهذا الوضع الاجتماعي المتميز فقمنا بمسؤولية النفرة، وكل منا يقول أنا أكفي الأمة الإسلامية أسرتي ومجتمعي، فأنتدب للضالين منهم فأنصحهم، والمنحرفين منهم فأقومهم.
وأنشر الهداية في بيوتاتهم.
- مراعاة أحوال الناس الدنيوية.
في (مجتمعات المسلمين) الذي توجد فيه قصور مترفة، وأموال تضيق بها البنوك، توجد فيه حالات ترفع إلى السماء حاجتها وعوزها.
يوجدون أين ؟ في الحارات الشعبية في المدن الكبيرة، في الشوارع الخلفية في بيوت تعبس جدرانها في وجوههم بالشقوق التي تنذرهم بقرب انهيار المسكن، ومع ذلك لا يخرجون منه رغم إنذار الجدران لهم بضرورة الخروج لأنهم لا يجدون مسكنا غيره.
يوجدون في البراري، أعراب يعيشون مع أبلهم وغنمهم يطعمونها كما يطعمون أبناءهم من جيبوهم.
يوجدون على الساحل الغربي في تهامة. من حدود اليمن إلى شمال المملكة.
حالات من الفقر والعوز لا ندري كيف توجد مثل هذه الصور في مجتمعات مترفة تنفق فيها الملايين في الترف المدمر وليس الترف المباح.
من ينتدب لهم؟ ينتدب لهم أصحاب الإيمان، أصحاب القلوب الرحيمة الذين ينشرون كتاب الله فيقرؤون:
(وتواصوا بالمرحمة ) يقرؤون فيه: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).
هل نفرت فئام من الشباب لمداواة هذه الجروح ولأمها؟ فكانوا رسل من أصحاب الموال الطيبة المباركة إلى أصحاب الحاجات يأسونها ويداوونها ويسدون هذه الخلة.
والله إنا لنخاف أن تحل بنا قارعة أو قريبا من دارنا إذا ارتفعت إلى السماء شكوى هؤلاء الفقراء في الوقت الذي ينغمس فيه أهل الترف في ترفهم وأهل اللهو في لهوهم وأهل اللذة في لذتهم وهم بيننا ويضاعف من محنتهم انهم فقراء في مجتمعات غنية.
- دور المرأة.
المرأة ينبغي أن تكون عونا لزوجها على طاعة الله، ينبغي أن تتحول البيوت إلى قلاع يكون للمرأة فيها دورها المؤثر، ولذلك قصص مشرقة في حياة الصحابة وحياة السلف يوم كان الرجل يخرج من بيته فتصحبه المرأة إلى الباب تودعه ببسمة وكلمة طيبة.
وليس الحال الآن–الله المستعان- يودع بقائمة من الطلبات ويستقبل بمجموعة من كتب الحسابات.
لا تودعه وهي توصيه بتقوى الله وتقول :
يا عبد الله اتقي الله فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام فلا تطعمنا إلا حلالا.
المرأة التي تكون عونا للزوج على طاعة الله كما كانت أم سليم لأبي طلحة يوم مرض أبنها أبي عمير وهو فتى لطيف يحبه النبي (صلى الله عليه وسلم) ويداعبه بقوله: يا أبا عمير ما فعل النغير؟
فيبكي أبو عمير ويقول : مات يا رسول الله.
هذا الصبي مرض فانشغل به أبوه يسال عنه إن دخل قال ماذا فعل أبو عمير؟
وإن عاد من عمل قال ما فعل أبو عمير؟
فإذا بأبي عمير يموت وعنده أمة، إذا بهذه الأم المفجوعة تسجي أبنها ثم تعد الطعام لزوجها.
لا لم تعد الطعام فقط بل أعدت نفسها وتهيأت لزوجها.
جاء الزوج وسأل أول سؤال ما فعل أبو عمير؟
قالت هو اسكن ما كان، ولا حركة، فطمأن وقدمت له طعامه فأكل، فلما أكل وشبع أراد شيئا أخر فأصابه.
فلما انتهاء من هذا كله، تأتت له أحسن التأتي وقالت:
يا أبا طلحة ما تقول في أناس استعاروا عارية من جيرانهم، ثم جاءوا يطلبونها فأبوا ؟
قال سبحان الله لا يردون العارية.
قالت نعم لم يرضوا أن يردوا العارية.
قال لا يصير هذا ولا يمكن.
قالت إذا فأحتسب ابنك فهو عارية عندك وإن الله الذي وهبها قد استردها.
أُم تعاني الفجيعة، والثكل ومع ذلك تكابد هذا كله، وتتأتى مع زوجها لتكون عونا له للصبر والاحتساب.
أيها الأخت المسلمة:
هل تفقدتي زوجك في عمله لله ؟
هل كنتيِ عونا له على طاعة الله؟
هل سائلتيه قبل أن تسأليه عن طلبات المنزل وحاجات البيت عن عمله لله وماذا عمل؟
فكنتي عونا له على ذلك.
أيها الأحباب هذه نماذج وغيرها كثير، وكما قلت فهي بعدد أنفاسنا.
ومن العمل للدين أن تجلس تفكر ماذا أعمل للدين ؟
وتذهب وتسأل كيف أعمل للدين ؟
وتستشير ماذا تعمل للدين ؟ فهذا من العمل للدين.
أيها الأحباب:
إذا لم تستنفرنا هذه النماذج المشرقة من سير النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وهم خير من قدم وأعطى، فخير من قدم وأعطى لمبدئه شباب محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه وأتباعه.
فينبغي أن يستثيرنا نفرت أهل الباطل إلى باطلهم، وحماس أهل الباطل لباطلهم.
اقرأ قصة لينين ودوره في إنشاء الجمهورية الشيوعية والكيان السوفيتي، عجب من العجب.
تعجب كيف عمل أهل الباطل لباطلهم.
انظر إلى عمل اليهود وتعصبهم وتكاتفهم، كل عملهم يصب في مصب واحد لإقامة دولة إسرائيل.
انظر إلى طلائع حزب البعث العربي الاشتراكي وكيف تربي طلائعها، حتى اللذة المحرمة التي هي جائزة عندهم لا يستطيعون الوصول إليها لأن الإنسان منهم مستغرق الوقت ومستنفذ الجهد للعمل للحزب وهو مبدأ أرضي لا ينتظر عليه جزاء يوم يلقى الله.
ألا يستنفرنا هذا لأن نعمل ونحن نجد اللذة في عملنا وننتظر الجزاء الأوفى يوم نلقى الله.
ألا يستنفرنا عمل أهل الدنيا لدنياهم، عمل أهل الملك لملكهم، أهل المال لمالهم، أهل الجاه لجاههم.
هذا العمل الذي جسده أبو الطيب يوم قال:
أُطاعن خيلا من فوارسها الدهر………..وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي……..وما ثبتت إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست بالآفات حتى تركتها……….تقول أمات الموت أم ذعر الذعرُ
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي…………..سوى مهجتي أو كان لي عندها وترُ
فتى لا يضم القلب همّات قلبه..….ولو ضمه قلب لما ضمه صدر
همات، لماذا ؟ لملك أو جاه أو مأرب دنيوي.
هذا العمل ينبغي أيها الأحباب أن يستثيرنا، ويستثيرنا معه أيضا استشعارنا حاجة الأمة للعمل للدين.
إن الدعاة والعلماء اليوم أصبحوا في وضع من المتأكد إن لم يكن من المتعين عليهم أن ينفروا إلى أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) يبثون فيها ميراثه، ولا يسع أحدا عالما أو داعية أو أي مسلما كائنا من كان أن يتذرع بعذر أو يتحجج بحجة، ليتحلل من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم، والمسلمين أن يبينونه للناس ولا يكتمونه.
ولا يملك أحدا ولا يسعه أن يحول بين عالم أو داعية وبين بلاغات رسالات الله.
بل لا يسع داعية أن يقدم قول أحد أو أمره على أمر محمد (صلى الله عليه وسلم). يوم قال:
(بلغوا غني ولو آية ).
إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ ولكنه صدرت بمرسوم رباني كريم برقم 125 من سورة النحل. (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن).
إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهرا في حياتنا تراه:
في شاب يوزع شريطا أو كتابا.
تراه في شاب يبلغ كلمة.
تراه في موقف يعلن إنكار منكر.
تراه هنا وهنا وهناك.
إن العمل للدين أمر لا نستخفي به ولا نتستر عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتنا ساحة فوارة بالعمل الضخم للدين تراه في كل فلته وفي كل لفتة.
تراه في برنامج كل شاب.
تراه في برنامج كل مسلم.
أقول قولي هذا وأسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه هل طاعته حتى لا يكون حد أعزا منهم.
ويذل فيه أهل معصيته حتى لا يكون أحد أذل منهم.
وترفع فيه كلمة الحق حتى لا تكون كلمة أعلى منها، وتقهر فيه كلمة الباطل حتى يخزى بها أهلها وتبقى حبيسة في صدور أصحابه، وحتى تقال كلمة الحق في كل مجمع وفي كل محفل وعى كل منبر وفي كل منتدى لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.