logo

العزة المنشودة في تربية الأبناء


بتاريخ : السبت ، 1 جمادى الآخر ، 1436 الموافق 21 مارس 2015
بقلم : يحيى البوليني
العزة المنشودة في تربية الأبناء

مهمة تربية الأبناء مهمة شاقة وخطرة , لكنها ذات أجر كبيرمن الله , فمن أحسن أداءها كان له من الأجر الكثير ومن أهمل فيها فقد عرض نفسهلسؤال الله له – وما أشق وأصعب الوقوف بين يدي الله للسؤال - وبميدان تربيةالأبناء دروب كثيرة وأساسيات مهمة ربما يمارس بعضها الآباء بالسليقة وربما يغفلعنها- كلها أو بعضها -  الكثير منهم , والتربية للأبناء من أهم عوامل غرس الصفاتالأساسية في المجتمع الذي يريد أن ينال رضا ربه سبحانه وكذلك أيضا لمن يريد أنتكون له مكانته السامقة بين المجتمعات .

وقد يهتم الأبوان بعناصر كثيرة في التربية , فيهتم بعضهمبالتربية الجسدية لأبنائهم بأن يعلموهم كيفية الحفاظ على صحتهم وعدم تعريض أجسادهمللخطر , ويهتمون بالتربية المالية فيعلمونهم كيفية الحصول على المال واقتنائهوادخاره وتكوين الثروات , ويهتم كثير منهم بالتربية العلمية فيساعدونهم علىالتحصيل الدراسي لنيل التفوق فيه والحصول على أعلى الدرجات العلمية , ويهتم بعضهمبالتربية الدينية السلوكية فيعلمونهم أركان الدين ويحفظونهم قدرا من القرآن الكريم, وغير ذلك من عناصر التربية التي يهتم بها الأبوان في أدائهم لهذه المهمة الجليلةالتي يقومان بها , وكل هذه الأقسام من الاهتمامات محمودة ولا شك بل هو واجب علىالآباء والأمهات الاهتمام بها , ولكن هناك تربية قد يغفل عنها الكثير
منهم وهي التربية على العزة والكرامة وهي الصفات التي تعتبر ذات أهمية بالغةالتأثير في شخصية الأبناء وتستمر معهم طول حياتهم .

فالعزة بمفهومها الشامل شعور نفسي بالاستعلاء على الدناياوالسفاسف فيستغني بها المرء عما في أيدي الناس , يحفظ كرامته من أن تهدر في تصرفخاطئ تلبية لرغبة أو شهوة نفسه , وتدفعه للمطالبة بحقه فلا يتنازل عنه عن ضعف وخور, تمكنه من أن يعفو عمن ظلمه عن قدرة واستطاعة لا عن خوف وجبن , توفر له القدرةوالاستقلالية في اتخاذ قرارات في حياته لا يتأثر فيها برضا الناس أو سخطهم ما دامتهذا القرارات لا تغضب ربه , ولا يشغله مراقبة الناس في أفعاله بقدر ما يشغلهمراقبة ربه العليم البصير عليه فيفعل الخير منفردا أو في جمع من الناس ويبتعدويلفظ فعل الشر أو المعيب أيضا دون نظر إلى الناس , يحترم ذاته فلا يتدخل فيما لايعنيه حتى لا يسمع مالا يرضيه , يكون رجل مبادئ ومواقف لا رجل مصالح وأعطيات , لايرتبط تقييمه للناس أو الأحداث بمقدار استفادته بل تربط تقييمه بمعيار قوي وواضحوثابت وهو ما يرضي ربه سبحانه فلا يكون ممن قال الله فيهم "  فَإِنْأُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ" , يقول الحق ويلتزم العدل حتى لو كان على نفسه أو أقرب الأقربين منه ولاتمنعه العداوة من الإنصاف ولا تصرفه المحبة للإجحاف " كُونُوا قَوَّامِينَلِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّاتَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " لا يقتصر نفعه على نفسهفقط بل يتعدى لغيره , فينتصر للمظلوم حتى لو كان مخالفا له في رأيه وفكره أوديانته , ويقف للظالم حتى لو كان حبيبا مقربا , يطلب الأشياء بعزة نفس لعلمه أن كلالأمور مقدرة سلفا فلا يستذل نفسه لمخلوق ولا يطلب إلا من ربه بداية ويحمد ربه علىكل حال بعدها .

هذه التربية المفتقدة لمعظم أجيالنا التي تربت على الخوفوالقهر والسكوت عن الظلم والرضا بالواقع مهما كان مرا وتقييم المواقف والأشخاص علىقدر المنافع والمصالح التي يجنيها الإنسان من ورائهم , تلك التربية التي لابد وأننحييها حتى لو كانوا مفتقدينها – جزئيا أو كليا - في أنفسنا كجيل آباء وأمهات ,ولابد وان نتعاون على استخراجها كمربين من بطون المواقف والأحداث , ويساند بعضنابعضا فيها حتى تكون شعورا عاما يسري في مجتمعاتنا , فقوة المجتمع تنبع من هنا ,وقوة المجتمع تظهر في قوة أفراده القادرين على حمل لواء نهضته بفكر راق ومنظموبنفسيات لا تعرف الذلة والخنوع والاستكانة ولكنها – رغم كل هذه القوة المندفعة-  تقف ثابتة أمام سياج لا تتعداه وهو حدود الشرع بالمحافظة على ثوابت الدينوحماية الأوطان وجمع شمل الأمة لا تفريقها .

إن الأم التي تظن أنها حينما تريد أن تفرض النوم على طفلهابان تحكي له قصصا مرعبة من وحي الخيال لا تدرك أنها تزرع أول بذرة سيئة في نفسيةطفلها بأن يعتاد الخوف وان يقبل به كمحرك لسلوكياته , فلم يذكر عن نبينا صلى اللهعليه وسلم شئ من ذلك أنه سمع به وأقره , فلا يحدث مثل هذا إلا في المجتمعاتالضعيفة الجاهلة التي لا تريد أن تستفيق من كبوتها والتي تريد أبناء لا ينجزونوظائفهم الدراسية إلا خوفا من عقاب المدرسين , ولا ينجزون أبحاثهم العلمية إلاخوفا من الرسوب الدراسي , ولا ينجزون أعمالهم بعد تخرجهم إلا خوفا من الفقر أوالطرد من الوظائف أو من معاقبة مديريهم , ولا يفعلون السلوكيات الصحيحة إلا خوفامن نظرة الناس لهم – فإذا غادروا بلدانهم وأمنوا نظر الناس ارتكبوا كل أو معظمالمنكرات , ولا يحسنون عبادتهم لله إلا بعد تخويف أو وعيد من العلماء والوعاظ أوبعد حدوث حادث كبير مخيف في دائرة معارفهم , ولهذا فالتربية على الخوف وحده لاتصنع رجالا ولا أبطالا بل تصنع عبيدا عاجزين لا يستطيعون إنجاز شئ إلا بضغط وإهانةوإذلال وإهدار كرامة .

وفي أسى علاقات المؤمن وهي علاقته بربه سبحانه لا تبنى علىالخوف وحده , بل يكاد الخوف وحده أن يوقع بالمسلم في كبيرة اليأس من رحمة الله ,وأكاد أجزم انه ما من أية أو مجموعة آيات في القرآن الكريم نجد فيها تخويفا وعذاباإلا وتأتي معها آيات ترغيب ورجاء لتستقيم النفس البشرية بين الخوف والرجاء ,ويتكرر ذلك في القران كله فهما جناحا طائر لا يمكن للمؤمن أن يطير بأحدهما دونالآخر " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْخَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ "  "يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَاخَاشِعِينَ " وأمثلته كثيرة في القرآن .

ولم يذكر ربنا سبحانه كلمة الذل على سبيل الأمر به والمدحلفاعله في كتابه الكريم إلا في موضع واحد , وهو في علاقة المسلم بوالديه "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَاكَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " ولكن الله سبحانه أتبعها بأن هذه الذلة الواجبةللوالدين مشروطة بعدم طاعتهما في معصية الله سبحانه " وَإِنْ جَاهَدَاكَعَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَاوَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً " ,  فالذلة المحمودة ههناذلة تعامل وخفض صوت وإجلال وإكبار للوالدين , لكنها أبدا لن تكون وصاية عقائديةولا فكرية , وخاصة عندما يراه المؤمن بيقين أن والديه يأمرانه أمرا ظاهرا وبينابمعصية ربه , وأقصى المعاصي الشرك بالله .

وتكون عزة المؤمن بكل ما أعطاه الله , وأعظم العطاياالإيمان والتقوى , فتكون عزته حينها على المنكرين للإيمان المتهكمين على الشرعالإسلامي الذين يوالون أعداءه , ولا تكون أبدا تلك العزة على المؤمنين حتى لوكانوا قليلي العلم أو حتى المقصرين في الطاعات جهلا لا عنادا واستكبارا , فيستعلىالمؤمن بإيمانه على العصاة المجاهرين ويريهم استصغارا لهم ولما يمتلكون , فيحرصعلى ألا يعظم في نفسه الذين يتشدقون بالكلمات والأفكار المسيئة للدين والمناهضة لهحتى لو حملوا أعلى الشهادات العلمية أو حازوا أرقى المناصب الدنيوية أو امتلكواأعلى الثروات , فيُكبر في عينيه الطائع حتى لو كان قليل العلم والجاه والمالويستعلى بإيمانه على المعادين المناوئين مهما بلغوا .

ولتكن نظرة التقويم للناس – كل الناس - هي الطاعة والمعصية, فالعز كل العز في طاعة الله , والذل كل الذل في معصيته , فكما قال ربنا سبحانه" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِالْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِجَمِيعاً " , ولتكن نظرة المؤمن للناس كنظرة الحسن البصري رحمه الله حين قال: " إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، إن ذل المعصية لايفارق قلوبهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه " , ولهذا استمر دعاءالصالحين  باستعلائهم الإيماني " اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك" .

والعزة حسنة بين سيئتين , فهي تتوسط بين الذل والخنوع وبينالتكبر والخيلاء , فالله عز وجل لا يحب عبده الخانع الذليل الذي يذل نفسه لغيرخالقه , بل وسماهم في كتابه الكريم بظالمي أنفسهم " إِنَّ الَّذِينَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُواكُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِوَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْمَصِيراً " فلماذا لم يقاموا الظالم ابتداء ؟ , ولِمَ استكانوا فلم يحاولواالخروج من تلك البلدة الظالمة , ولماذا قبلوا على أنفسهم أن يستذلوا ويستعبدوا ,وذلك بعد استثناء أصحاب العجز الحقيقي المعذورين , فيقول صاحب الظلال رحمه الله" إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوانوالاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهمومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيقوهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات" .

والسيئة الأخرى هي التكبر والخيلاء الذي نهى الله سبحانهالمؤمنين عنه , " قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَافَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " وفي الحديث الذي صححه الألباني من مسندالإمام أحمد يقول أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قال اللهعز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته فيالنار ) , والمتكبر يتكبر على خلق الله بما لا وُهب له من ربه ولم يكن له في وصولهإليه حيلة ولا يملك دفع الضر عن نفسه ولا عما وُهب من النعم , ويتكبر على الجميعمؤمنهم وكافرهم لسوء في خلقه وضعة في نفسه
والمؤمن العزيز غير الصنفين تماما فلا يكون بالخانع الذليل ولا بالمتكبر المتغطرس.

 

موقع المسلم