logo

الصوم وإدارة الذات


بتاريخ : الخميس ، 7 رمضان ، 1441 الموافق 30 أبريل 2020
بقلم : د. إبراهيم أبو محمد
الصوم وإدارة الذات

الإنسان منذ خلق وتركيبته الجسدية والعضوية واحدة حتى هذه اللحظة، فهو عبر الأجيال الزمنية والحدود الجغرافية يتمتع بوحدة بيولوجية عجيبة؛ لا تفرق بين إنسان وإنسان، بين الفقير أو الغنى، بين إنسان الشمال أو إنسان الجنوب.

 وكان يفترض أن الوحدة البيولوجية الدقيقة والتي استمرت عبر الأجيال وظل قانونها الصارم يحكم تكوين الإنسان، أن تكون دليلا واضا على وحدة دليلا واضحا على وحدة المصدر منذ الخلق الأول، غير أن الناس قد أضلت بهم شطحات العقول في بحث بداية الخلق، فهم يتخبطون بين نظرياتٍ نسبة الخطأ فيها أضعاف أضعاف ما فيها من الصواب، والخرافة فيها أضعاف أضعافِ ما فيها من الحقيقة، هنا يتدخل البيان الإلهي لينهى الجدل العقيم ويحمى طاقة العقل من التبدد والضياع في متاهات التخبط والظنون بغير يقين من العلم أولا فيقول :{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ. } (الطور: ٣٥ - ٣٦).

 وثانيا: بما أنه لم يعرف من البشر عاقل ادعى أنه خلق نفسه أو أنه خلق غيره، ومن ثم فإن السؤال هنا ليس له إلا إجابة العاجز، ولذلك فالبيان الإلهي حسم القضية لصالح المنطق السوي بمقدماته الصحيحة ونتائجه الموحدة التي لا تختلف ولا حتى في جزئياتها ليشهد العقل السليم بالتسليم للخالق الأعلى مرتين:

مرة بأنه هو الله وحده ولا شريك له، وأنه وحده المتفرد بالخلق والإيجاد.

 والمرة الثانية ليشهد العقل السليم فهما وتسليما وتعبدا بصدق البيان الإلهي بأن الكل هناك قد كان غائبا في العدم، حيث لا أحد ولا كل هناك غير الواحد الأحد، {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: ٥١).

والوحدة البيولوجية تبقى دلالة على بصمة المصدر في الإيجاد من عَدَمٍ أولًا، والإمداد بالفضل والعناية من عُدْمٍ حال الحياة ثانيًا، والبعث من تفريق بعد الموت ثالثا، لتشهد بها الفطرة في الذات الإنسانية ولتنبئ عن قدرة الخالق في وحدة الذات الإنسانية من حيث مصدرها الأصلي ومراحل الترقي في الوجود بداية ونهاية "{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:١٢-١٤).

 الوحدة البيولوجية هذه لا تمنع من تعدد الألوان واللغات والأجناس، وإنما تبقى شاهدة على إبداع الخالق في التنوع والاختلاف {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: ٢٢).

وهو اختلاف يكون في الكم ويكون في الكيف، أي أنه اختلاف يكون في الكم عددا بالزيادة أو النقص، ويكون في الكيف تنوعا في القدرات والملكات والاستعدادات التي تميز شخصا عن آخر من البشر أو تميز مخلوقا عن آخر من المخلوقات.

والتميز والاختلاف هنا لا يكون في أصل الجنس، وإنما يكون في الملكات والقدرات والطاقات و عمليات استخدامها وتوظيفها، ومن ثم فهو سبحانه خالق كل شيء، وقد حمد نفسه نيابة عنا لأن العاجز الفقير لا يفي مهما أُوتى من بلاغة بحمد سيده والثناء عليه، وليعلمنا كيف يكون الحمد ويشرح لنا أيضا كم التنوع وحجمه في الإبداع الأعلى أرضا وسماء وما بينهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (فاطر:١).

الملكات المتراصة والمتنوعة والمكونة للذات الإنسانية بين عقل وقلب، وجسد وروح ورغبات وشهوات قد تسمو بالإنسان وقد تسقط به،

بين فكر يصيب فيرقي الحياة ويضيف إليها وتزدان به، أو بين فكر يشرد فيضل الحياة ويخزيها ويشقيها.

بين عاطفة تتسع بالحب فتسع الناس والأحياء، أو تضيق بالكراهية والحقد فتكره كل شيء حتى نفسها.

وحتى لا تتناقض هذه الملكات والقدرات في أدائها ولا تتصادم في توجهاتها ومسارها، ولكي تشكل منظومة متناسقة تعمل معا لابد لها من عملية تنظيم داخلي وخارجي أستأذن القارئ أن أسميها (إدارة الذات).

 وإدارة الذات كي تنجح وتحقق الهدف لابد لها من برنامج عملي ومحدد يتضح فيه المطلوب وكيفية تنفيذه والزمن والمكان المقرر والمفضل لذلك التنفيذ، ومن ثم كانت كل عبادة ترتبط بوقت معين، كما ترتبط بعض العبادات بأماكن معينة وفي زمن معين، هذا البرنامج لا يتم إعداده وصياغته منى أو منك، فالفكر البشري مهما سما لابد أن يحمل بالضرورة طابع الأرض لأن كل شيء فيه يخضع لقانون الزمان والمكان ـ كما يقول المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي ـ فطابع الأرض ـ بموجب خضوعه لقانون الزمان والمكان ـ هو النقص والتناقض والتغيير والتحول ومن ثم كان لابد لهذا البرنامج أن يأتي تشريعا من المصدر الذى خلق فسوى وقدر فهدى، ولكن تنفيذ وتطبيق إدارة الذات لابد أن يكون بإرادة الذات لا رغما عنها، ومن ثم كانت التكاليف الشرعية مرتبطة بحرية اختيار الإيمان والقدرة على تنفيذها، وحرية اختيار الإيمان بالطبع عملية عقلية محضة، ولذلك كان العقل شريك النص في معرفة الحقائق ومن لا عقل له فلا تكليف عليه.

 وأمام هذا العقل تعرض أنواع الهداية بأدلتها التفصيلية الشارحة ليكون اختيار المرء على علم لا يداخله ظنون وعلى يقين لا يشوبه شكوك أو غموض.

 زمان العرض لأنواع الهداية بأدلتها التفصيلية كان شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

 هدى للناس في مجال العقيدة فيطرح تصور الالوهية بما يليق بالذات الإلهية من صفات الكمال والجمال والجلال، وبكل كمال في التنزيه بعيدا عن ضلالات التجسيم وضبابية التشبيه، فهو سبحانه مخالف للحوادث فلا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، ويسوق القرآن أدلة الوحدانية والتنزيه من أقرب وجه وبأقوى حجة وأصدق دليل، ولا يكتفي البيان الإلهي في سوق الدليل والحجة بمخاطبة العقل وحده وإنما يحيط بالنفس من كل اتجاه ويدخل إليها من كل مدخل ويتسلل إليها من كل منفذ حتى لا يترك لها فرصة الهروب من مواجهة الحق، اللهم إلا جحودا وإنكارا لا منطق فيه، يتجاهل كل الحقائق ولا دليل له، ولا يخضع لمعايير المنطق الموزون في عرف العقلاء.

 وبينات من الهدى في مجال التشريع بتفصيل ما يحتاجه الناس في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل شؤونهم طولا وعرضا وعمقا.

 طولا في الزمان وعرضا في المكان وعمقا في الحاجات المتجددة لكل الأجيال.

 وهو شهر يستعد له المسلم ويدخل فيه بتكليف عجيب وكأنه في معسكر تدريب للنفس تمارس فيه سموها فوق الحاجات والغرائز وتضبط فيه سلوكها بميزان القيم الرفيعة نبلا وخلقا.

 وإذا كان علماء النفس وعلى رأسهم سيجموند فرويد يعتبرون غريزة الجنس وغريزة الطعام والشراب أقوى الغرائز والدوافع تأثيرا في السلوك الإنساني فإن الإسلام علم أتباعه والمؤمنين به كيف يسيطرون على غرائزهم ودربهم عن طريق الصوم كيف يمتنعون وبإرادتهم المحضة عن ممارسة هاتين الغريزتين نصف اليوم شهرا كاملا حتى ترتقي إرادة المرء سيطرة وضبطا وتنظيما فيكون على غيرها أقدر.

 بداية الممارسة مرانا وتدريبا قبل البلوغ ولكنها تبدأ وجوبا منذ البلوغ، ويستمر عليها كل الحياة فيخرج من هذا المعسكر قادرا على مواجهة الأزمات حرا في إرادته لا ينحني له ظهر ولا يلين له عود، ومن ثم فهو شهر مقصود العبادة فيه بجانب طاعة الخالق بناء رجولة المخلوق، وتدريبه على إدارة الذات، وعلينا أن نعى تلك المقاصد، كل عام وأنتم بخير.

المصدر: موقع الإسلاميون