الدَّعائمُ العشرُ للنَّقد البنَّاء
من أكثر الأمور إشكاليَّةً: إصدارُ حكم على النَّقد، بأنَّه بنَّاء أو هدَّام!.
فكلُّ من أراد أنْ يوجِّه نقداً للآخرين، من أفراد، أو أحزاب، أو دول،سيزعم أنَّ نقده بنَّاء، وأنَّه يبتغي بنقده - وجه
الله والدَّار الآخرة -،ويمارس حقَّه في كشف الخطأ والزَّيف والضَّلال، والتَّحذيرِ من الانحراف،وتقديم النَّصيحة، والغيرة على المصلحة العامَّة.
وكلُّ من يرفض النَّقد الموجَّه إليه، قد يتذرَّع بأنَّ النَّاقدَ صاحبُغرض شخصيٍّ، وأنَّه لا يعرف أقدار الرِّجال، ولا يلتزم بأدب الخطاب، ولايملك الكياسة والذَّوق، وأنَّه يتطاول إلى مقام لا يبلُغُه، وأنَّه يوقظفتنة، ويبُثُّ فُرقة، ويُضعف المعنويات، أو يضعف "الشُّعور القومي"!.
فهل يضيعُ الحقُّ والصَّواب، ويُعطَّل النَّقد، بين الفريقين؟!.
لنعترفَ ابتداءً أنَّ هناك أموراً لا يمكن الفصل فيها، ولا يعلم حقيقتهاإلا الله تعالى، وهي ما يتعلَّق بالقلوب والنِّيَّات. فهل الذي انتقَدَقَصَدَ وجه الله، وابتغى الخير، وحرص على المصلحة... أم أنَّه أراد الحطَّمن قدر صاحبه، والصُّعود على كتفيه، وإبراز ذاته، وبناء مجد شخصيٍّلنفسه؟!. وهل الذي رفض النَّقد، استند إلى مسوَّغ شرعيٍّ صحيح، أم أنَّهانتصر لنفسه، وأخذَتْهُ العزَّة بالإثم؟!.
وإذا كنَّا لا نملك الحكم على ما في القلوب، فإنَّنا نستطيع إبراز مجموعةمن الضَّوابط والدعائم؛ التي يجب أن تحكم عمليَّة النَّقد أو توجِّهها،وتعزِّز من إيجابيَّاتها، وتقلِّص من سلبيَّاتها. وإليك هذه الدَّعائموالضَّوابط للنَّقد البنَّاء:
أولاً: النَّقد البنَّاء عمل مشروع: فهو لون من ألوان الأمر بالمعروفوالنَّهي عن المنكر، ولون من النَّصيحة: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّةالمسلمين، وعامَّتهم " كما في الحديث الصَّحيح، الذي رواه مسلم. ولقد كانأهل الفضل والإنصاف يفرحون بمن ينتقدهم، ويكشف لهم عيوبهم، ولو كانعدوَّاً، لأنَّه يعينهم على معالجة هذه العيوب وتجاوزها.
ثانياً: كشف الَّناس على حقيقتهم: إنَّ فسح المجال للنَّقد، قد يتيحالفرصة لبعض المخربين، وأصحاب الأهواء، حتَّى يهدموا ويزرعوا الفتن باسمالنَّقد! نعم. ولكن!! إشاعة قيم الإيمان، والأخلاق، وطرق التَّفكيرالسَّليم، تكشف هؤلاء المخرِّبين، وتجعل بضاعتهم مُزْجاة أمام الجماهير،وتنمِّي الذَّوق الاجتماعي، الذي يميِّز الخبيث من الطَّيب، ويحترم منيلتزم بالأدب، ويتَّصف بالتَّقوى، والاستقامة، والرَّحمة، ويحرص على إعلاءكلمة الحقِّ، وتحقيق المصلحة العامَّة.
ثالثاً: القصد والغاية والهدف: علينا أنَّ نذكِّر النَّاقد، ونوصِّيه أنيبتغي وجه الله تعالى، وإرادة الخير، وإصلاح الخلل، ولا يقصد الاستعلاءعلى صاحبه، أو تشويه صورته، فلا معنى لذكر عيوب في شخصه، لا علاقة لهابموضوع النَّقد. فهناك أناس يجعلون النَّقد حرفة لهم، أو هواية، يترصَّدونالأخطاء والهفوات ويتصيَّدونها، ثمَّ يبالغون في إبرازها وتصويرها،ويُتْبعون ذلك سوء الظَّن، ويشكِّكون في الإيجابيَّات، والإنجازات، أوينكرونها!. وبذلك يُحْبِطون النُّفوس، ويشيعون روح الهزيمة، ومن كان هذاظاهر حاله، فهيهات!! أن يكون قد ابتغى وجه الله!.
رابعاً: تقديم البدائل: النَّاقد لا يُلْزَم بتقديم البديل الصَّحيح،للوضع الذي يراه خاطئاً، وإن كان تقديم البديل أفضل وأكمل، فهناك من يدركالخطأ، لكنَّه لا يستطيع أن يقدِّم صياغة بديلة، ويمكن لمن وقع عليهالنَّقد أن يدرسه بموضوعيَّة وجِدِّيَّة، فإن وجد فيه حقَّاً وصواباً أخذبه، وإلا تجاوزه!.
خامساً: اختيار الأسلوب الأفضل: على النَّاقد أن يتخيَّر أفضل الأساليبفي عرض رأيه، ويتجنَّب الخشونة والفظاظة، حتَّى يُثبت لنفسه وللآخرين،أنَّه يقصد إحقاق الحقِّ، وإبطال الباطل، والتَّوجيه نحو الأصوب، ولا يقصدالنَّيل من الأشخاص، والتَّسلُّق على أكتافهم، ولعلَّه إذا التزم بهذاالخلق، فُتحت له القلوب، وهَيَّأَ لنقده أجواء القبول الحسن. نعم، إذا كانالنَّقد موجَّهاً للطُّغاة المتجبِّرين، فيجب أن يكون قويَّاً مؤثِّراً،وإن أغضبهم، لأنَّ هؤلاء في الغالب بحاجة إلى مَن يأْطِرهم على الحقِّأطراً، كما أشارت إليه الأحاديث الصَّحيحة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه،أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "... والله لتأمرُنَّبالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يد الظَّالم، ولتأطُرُنَّهعلى الحقِّ أطراً، ولتَقصُرُنَّه على الحقِّ قصراً، أو ليضربنَّ اللهبقلوب بعضكم على بعض... " رواه أبو داود والتِّرمذي، وقال الترمذي: حديثحسن.
سادساً: حصافة النَّاقد وذكاؤه: على النَّاقد أن يكون حصيفاً متوازناً،فيكتفي بالإشارة العابرة إذا كان الخلل الذي يراه يسيراً، ويشدِّد ويؤكِّدإذا كان الخلل الذي ينتقده خطيراً،وهو – في كلِّ الأحوال – مطالَب بأن يكونرفيقاً في أسلوبه، ليِّناً في كلامه، لا يصل إلى التَّجريح والإهانةوالاستفزاز، فإذا كان قول الحقِّ أمراً مسلَّماً فيه، لا نزاع فيه ولامساومة عليه، فإن الأسلوب يجب أن يقترن بالحكمة، وليس هناك خلل أشدُّ منقول الطَّاغية فرعون:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُلَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص: 38. وقوله: ( فَقَالَ أَنَارَبُّكُمُ الْأَعْلَى) النَّازعات: 24. كما حكى عنه القرآن الكريم، ومع ذلكأمر الله تعالى رسوليه موسى وهارون فقال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَإِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُأَوْ يَخْشَى) طه: 43-44.
سابعاً: كلُّنا معرَّضون للخطأ: ليعلم النَّاقد أنَّه هو كذلك معرَّضللخطأ والصَّواب، سواء فيما ينتقد أو في شؤونه الأخرى، وأنَّ ما يقدِّمه مننقد، إنَّما هو – في الغالب – وجهةُ نظَرٍ له، وليس أمراً يُصْدِرُه، وعلىالآخر أن ينفِّذ. هناك في كلِّ بيئة أو مؤسسة جهةٌ ما، تملك المحاسبة،واتِّخاذ القرار، وليس هذا متروكاً لكلِّ ناقد. ومن تمام ذلك أنَّ النَّاقدالبصير المنصف، يأخذ نفسه بالتَّوجيه والنُّصح والالتزام بالحقِّوالصَّواب، قبل أن يوجِّه النَّقد لغيره، لا سيَّما في الموضوع الذي يجعلهمحلَّ النَّقد، فلا يتَّهم الآخرين بالاستبداد بالرَّأي، وهو مستبد برأيه،ولا يعيب على غيره العمل الارتجالي البعيد عن التَّخطيط، وهو ارتجالي أهوج.إنَّه التزام النَّاقد بالصَّواب الذي يدعو إليه، يبرِّئ ذمَّته أمام اللهأولاً، ويجعل لنقده قبولاً في نفوس الآخرين.
وممَّا يُروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – قوله:
(من نصب نفسه للنَّاس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه).
ثامناً: قبول النَّقد بصدرٍ رحْبٍ: على من تلقَّى انتقاداً من غيره،ينبغي أن ينظر في موضوع الانتقاد نفسه، ولا يرفضه بحجَّة أنَّه لم يأتِهبأسلوب حسنٍ، ولباقةٍ عالية!.
تاسعاً: تمام التَّجرد: على من وُجِّه إليه النَّقد، أن يبرِّئ ذمتهأمام الله أولاً، وأمام عباد الله ثانياً، بأن يأخذ بالرَّأي الصَّحيح متىاستبان له، وأن يتجاوز الخطأ متى عرفه، وأن يوضِّح الأمر للنَّاقد؛ إذا كانقد بنى نقده على ظنٍّ خاطئ. وفي سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه هدايةٌ لمنطلب الهداية: فعندما نهى عمر رضي الله عنه عن الغلوِّ في صَداق النِّساء،بألا يزيد على أربعمائة درهم، قالت له امرأة من قريش: أما سمعت الله يقول:(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْإِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُبُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)النساء: 20. فقال: (غُفْراً !! كلُّ النَّاسأفقه من عمر). ثمَّ رجع إلى المنبر فقال:( أيُّها النَّاس: إني كنتُنهيتكم أن تزيدوا النِّساء في صدُقاتهنَّ على أربعمائة درهم. فمن شاء أنيعطيَ من ماله ما أحب!.) " والحديث بتمامه في مسند أحمد، ومسند أبي يعلى،بألفاظ متوافقة ". وعندما جاءت عمرَ بُرُودٌ من اليمن، فرَّقها على النَّاسبُرداً بُرداً، ثمَّ صعد المنبر يخطب، وعليه حُلَّةٌ منها " أي بُرداناثنان "، فقال: (اسمعوا، رحمكم الله!). فقام إليه سلمان رضي الله عنه فقال: (والله ما نسمع). فقال عمر:(ولِمَ ؟) فقال: (يا عمر!! فرَّقتَ علينابُرداً برداً، وخرجتَ تخطب في حُلَّة!). فنادى عمر ابنه عبد الله، فشهدأنَّ أحدَ البردين له؛ " أي لعبد الله بن عمر " وقد استعاره منه!. فقالسلمان:(أمَّا الآن فقل نسمعْ ونطِعْ!).
ففي القصَّة الأولى الأخذ بالرَّأي الصَّحيح متى استبان له. وفي الثَّانية بيان وجه الصَّواب، وجلاء الحقيقة التي غابت عن النَّاقد.
عاشراً: التَّعلُّم من الأخطاء: من سنَّة الحياة أن يعلو صوت النَّقد،وتختلط أصوات النَّاقدين عندما يظهر الإخفاق، أو تحدُث الهزيمة، بل قدينضمُّ إلى النَّاقدين من كان يسير في الركب راضياً، ومن كان يُثني ويمدحويتملَّق!. إنَّه أمر من طبيعة البشر. وعلى "الآخر" أن يتحمَّل ويصبر،ويستفيد من "التَّغذية الرَّاجعة"ويتعلَّم من خطئه.
المصدر: موقع المسلم