logo

الخلفية التاريخية لانحراف مفهوم الهوية


بتاريخ : الاثنين ، 19 رمضان ، 1436 الموافق 06 يوليو 2015
بقلم : شريف محمد جابر
الخلفية التاريخية لانحراف مفهوم الهوية

حديثنا في هذا المقال يَدور حولَ محورين أساسيَّين:

• المحور الأول: العوامل الداخليَّة التي أدَّتْ إلى ضَعْف الهويَّة الإسلاميَّة بيْن أبناء الأمَّة.

• المحور الثاني: العوامل الخارجيَّة التي أدَّتْ إلى انحراف مفهوم الهويَّة والْتِباسه بغيره مِن المفاهيم الدخيلة.

 

العوامل الداخلية:

حينما أقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- دولةَ الإسلام في المدينة المنوَّرة كان حريصًا أشدَّ الحرص على إشراك الأمَّة الإسلامية في الشؤون والسياسات العامَّة واتخاذ القرارات، فكان نظامُه - عليه الصلاة والسلام - نظامَ "مشاركة" إن صحَّ التعبير، نظامًا تلتحم فيه شرائحُ الأمة بمختلف مستوياتها مع الحاكِم وأجهزة الحُكم؛ لتشارك في صُنع القرار وإدارة الشؤون السياسية والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، واستمرَّ هذا الوضع الشرعي في الخلافة الراشدة.

وكانتِ المشاركةُ تتحقَّق في تلك العهود المنيرة عن طريقِ الشورى الملزِمة لأهل الحَلِّ والعَقد ولأهل النَّظر والاجتهاد، وكانتِ الأُطر المختلفة في الدولة الإسلاميَّة تندمج في الشأنِ العام للأمَّة، والسيرة مليئةٌ بالحوادث التي تبرز لنا طبيعةَ المشاركة ودورها في إحداثِ التلاحم بين الحاكِم والأمَّة، وكذلك الأمر سِيَرُ الخلفاء الراشدين[1].

فالأصلُ أن تتحقَّق مشاركةُ الأمَّة في النِّظام الإسلامي عن طريقِ الشورى الملزِمة لأهلِ الحَلِّ والعَقد، ويكون دورهم تحقيقَ مصالح الأمَّة بمختلف الطُّرق؛ سواء كان ذلك بممارساتِ الحِسبة أو الشُّورى أو العَزل، أو غيرها مما يُحقِّق مصالح الأمَّة، ويَضمن حقوقَها في إقامةِ شَرْع الله والعدْل مِن قِبل الحاكم، وتتحقَّق كذلك عن طريقِ الشورى الملزِمة لأهل النَّظر والاجتهاد فيما ليس فيه نصٌّ ولا إجماع، ولكنَّ هذا الأصلَ الذي تحقَّق في دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الخِلافة الراشدة بمستوًى رائعٍ لا مثيلَ له في التاريخ، لم يكن ليستمرَّ طويلاً على هذا المستوى الرائِع، بل انحسرتْ مشاركة الأمَّة في الحُكم في عهد المُلْك العَضوض بعد الخلافة الراشدة، وكانت أهمُّ أسباب انحسار هذه المشاركة بفاعليَّتها الشرعية هي:

• الاستبداد: الذي صَبَغ بدرجات متفاوتة هذه العهودَ مِن الحكم الإسلامي مِن قِبل بعض الحُكَّام والوُلاة، ولئن كان الأمرُ غيرَ عام على كل تلك العهود كما يُروِّج المستشرقون والعلمانيُّون؛ حتى يقولوا: إنَّ الحكم الإسلامي كان ظالمًا كله، وينبغي إذًا نبْذُ فكرة إعادته وتطبيقه[2]! ولكن المقدار الذي حدَث منه كان كافيًا في زحزحة قضية مشاركة الأمَّة عن وضعها الشرعي الطبيعي.

• التوريث: والذي كان انحرافًا - ولا شكَّ - عن المنهج النبوي والراشدي في طريقةِ اختيار الإمام، وعدَم تفعيل الشورى لاختيارِ الإمام مِن قِبل أهل الحَل والعَقد في الدولة الإسلامية يُفضي إلى شيءٍ من انحسار فاعلية الهويَّة الجماعيَّة للأمَّة، بعد انحسار هذا الجانب الهامِّ من المشاركة، حتى لو كان التوريثُ يأتي بأحسنِ الخلفاء (كإتيانه بعُمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -)، ولكنَّه مِن حيثُ الأصل انحراف عن المنهج الشرعي في اختيارِ الخليفة.

وأدَّتْ هذه العوامل مِن الاستبداد وتوريث الحُكم إلى مزيدٍ من الظواهر التي أثَّرت في انحسار فاعلية الهُويَّة الإسلاميَّة في جانبِ الممارسة الجماعيَّة لها، وكان أهمُّها:

• نموّ التديُّن الفردي على حسابِ المسؤوليات العامَّة للأمَّة: ويؤدِّي كلُّ ما سلَف إلى نموِّ التديُّن الفردي في عمومِ الأمَّة على حسابِ الالتزام الجماعي والمسؤوليَّات الدِّينيَّة العامَّة للأمَّة؛ فالعلماء يلوذون بالخطابِ الفَردي لعمومِ الأمَّة في خطبهم وكتبهم ورسائلهم، مما يؤدِّي إلى إعطاء مساحةٍ أكبرَ للتكاليف الشرعيَّة الفرديَّة، وضمور المساحة المُعطاة للتكاليف الكفائيَّة الجماعيَّة في الخِطاب الدِّيني؛ خوفًا منِ بطش بعض الحكَّام، وهذا يؤدِّي إلى خفوتِ وهج الهويَّة الإسلاميَّة "كممارسة جماعية" رغمَ بقائها متألقة كشعور عامٍّ بين أفراد الأمَّة الإسلاميَّة.

ويُضاف إلى هذه العوامل الداخليَّة التي أدَّت إلى انحراف مفهوم الهويَّة عن وضعه الشرعي الطبيعي في كيان الأمَّة:

• المذهبية: التي نشأتْ في الأمَّة الإسلامية، وكانتْ لها سلبياتها بأن تعصَّب أبناءُ كل مذهب إلى مذهبهم، رغم أنَّ تأثيرها في ضَعْف فاعلية الهويَّة الإسلاميَّة لم يكن بذلك التأثير الكبير، ولكنَّه أحْدَث فِعْلَه في اضطراب هذه الفاعلية.

• نشوء الفِرَق والطوائف: وهذا أدَّى إلى تشيُّع بعض طوائف الأمَّة إلى فِرقها ومعتقداتها المنحرِفة عن معتقد أهل السُّنة والجماعة، ممَّا عزَّز الفُرقة في أجزاء من الأمَّة الإسلاميَّة، ولئن كانت هذه الفُرقة أحدثت فعلَها في الإخلال بفاعلية الهويَّة الإسلاميَّة عندَ مَن انحرف عن منهج أهل السُّنة والجماعة إلى مناهجِ المبتدعة؛ كالشيعة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، فالواقِع التاريخي يشهد أنَّ الثِّقل الأكبر كان لأهل السُّنة والجماعة في بلورة الهويَّة الجماعيَّة للأمَّة الإسلاميَّة.

• أوضاعُ الفرقة: التي سادتْ في العالَم الإسلامي منذُ أن تعدَّدتِ الإمارات الحاكمة في بلاد المسلمين، ودارتْ بينها رحَى الحروب والمعارك الطويلة التي قاتل فيها المسلمون إخوانَهم المسلمين! ولكنَّ الواقع التاريخي يشهَدُ أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة رغم بروز أوضاع الفرقة هذه كانت لها هُويَّة واحدة متماسكة، وكان المسلمُ يسافر في بلادِ المسلمين ويتنقَّل بين الإمارات المختلفة دون وجود أيِّ قيدٍ لهذا التنقُّل، بل وحتى الإقامة، ودون الإحساس بالغُربة بين إخوانه من المسلمين في أيِّ البلاد حلَّ، طالَمَا كان فيها إخوةٌ مسلمون يَنتمي إليهم على أساس الإسلام، على عكس ما هو قائمٌ في أوضاع الفرقة المعاصرة القائِمة على أساس عقد "المواطنة" الذي يُميِّز بين المسلمين في الحقوقِ والصلاحيات على أساسِ المواطنة لا على أساس الإسلام!.

ولم يكُن تأثيرُ العوامل الداخلية في انحرافِ الهوية الإسلاميَّة عن وضْعها الشرعي الطبيعي كما هو تأثير العوامل الخارجيَّة.

العوامل الخارجية:

كانتِ الرابطةُ الإسلاميَّة هي الرابطةَ الوحيدة التي يتجمَّع حولها المسلمون ويعتزُّون، وكانت الهُويَّة الإسلاميَّة هي التي تشكِّل انتماءهم وولاءهم، فما الذي حدَث بعد ذلك؟

الذي حَدَث هو دخولُ دعوات الاجتماع على "القوميَّة" أو "الوطنيَّة" في كيان الأمَّة الإسلاميَّة مع بداية القرن الرابعَ عشرَ الهجري، وكانتْ هذه الدعوات صدًى للاتجاه العالمي نحوَ فِكرة القومية في القرن التاسع عشر[3]، الفكرة التي كانت أوروبا هي منشأها الأساسي ومحضنَها الذي وُلِدت فيه، فكيف نشأتِ القوميَّات والوطنيَّات في أوروبا؟

ملابسات نشأة القوميَّات والوطنيَّات في أوروبا:

الدِّراسةُ العميقة لأحوالِ أوروبا منذُ دخول النصرانية إليها حتى عصور انفصال الملوك والكنائس عن الكنيسة الأمِّ، هذه الدراسة تُظهِر لنا الظروفَ والملابسات التي نشأتْ فيها الوطنيَّاتُ أو القوميَّات في أوروبا، ولا بدَّ لنا مِن إلمامةٍ سريعة بالأسباب التي أدَّت لنشوء الوطنيات هناك، حتى نسأل أنفسنا بعدَ ذلك: هل كان حتمًا علينا أن نَخطوَ نفسَ الخُطوات ونحن لم نمرَّ بتلك الظروف ولم تكُن عندنا تلك الأسباب؟

السبب الأول: الذي شجَّع على قابليةِ الانفصال عن الكَنيسة في أوروبا هو أنَّ الدِّين الذي فُرِضَ على أوروبا في عهد الإمبراطور قسطنطين عام 325م كان دِينًا وثنيًّا مُحرَّفًا خلط رسالة المسيح - عليه السلام - بعقائدِ الإغريق الوثنيِّين، وكان عقيدةً مفصولة عن الشريعة، فلم تكُن طبيعة التجمُّع النصرانيِّ في أوروبا كطبيعة التجمُّع الإسلامي، فلا يستوي دِين متكامل شامِل يحكِّم العقيدة في الضمير والواقِع في الحياة، ودِين ممسوخ يضمر في الوجدان ويحكُم بعض السلوك الفردي، ولكنَّه يَعجِز عن حُكم الواقع الكبير للناس! بل كان الواقِع العملي للناس تحكُمه أهواءُ الأباطرة والقوانين الرومانيَّة.

السبب الآخر: هو أنَّ العقيدة النصرانيَّة تفرَّعت إلى مذاهبَ شتَّى تختلف في الأصول لا في الفروع كما هو الحال في الإسلام، فلم يُساعِد ذلك على الإحساس بالوحدة الشاملة عندَ النصارى في أوروبا؛ لأنهم يعلمونَ بوجودِ قطاعات أخرى في أماكنَ أخرى تختلف مع الكنيسة الكاثوليكيَّة في الأصول لا مجرَّد الفروع.

وسبب ثالث: إذا أضفناه لهذين السَّببين اكتملتْ عندنا الصورة التي تبيِّن لنا: لماذا لم يرتقِ التجمُّع النصراني في أوروبا في ظلِّ الكنيسة حتى يكوِّن "أمة" واحِدة على الشكلِ الذي قام في العالَم الإسلامي لقرونٍ طويلة؛ وهو أنَّ اللاتينية - لغة كتابهم - كانتِ اللغة الرسمية للإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وتفرَّعتْ عنها الكثير مِن اللغات في أوروبا، ثم أدَّى انهيار الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الغربيَّة واستيلاء قبائل الجرمان على كثيرٍ من أجزائها إلى إضعافِ الصلة باللاتينية لدَى هذه الشعوب الأوروبية، وحصْرها في حيِّز ضيِّق من المثقَّفين ورجال الدين.

وبذلك تكون الإمبراطوريَّةُ المسيحيَّة قد افتقرتْ لعناصر ثلاثة تواجدتْ عندَ الأمة الإسلاميَّة حتى تكون أمَّةً واحدة متناسِقة؛ فالإسلام لم يكن عقيدةً منفصلةً عن الشريعة، ولم تنشأ تلك الخلافات في أصولِ العقيدة التي تمزِّق الوحدة بنفسِ الدرجة التي كانتْ عندَ النصارى في أوروبا؛ فقد نشأتْ خلافات عقديَّة خطيرة في داخلِ كيان الأمَّة الإسلاميَّة، ولكن الفارق الهائل أنَّ الله قد تكفَّل بحفظِ كتابه وسُنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - المبيِّنة له، وقيَّض لها مَن يذبُّ عنها مِن الأئمة الأعلام، واتَّصل الموروث جيلاً بعدَ جيل، بخلاف الأمم الأخرى - ومنها النصارى في أوروبا - التي ارتكزتِ اختلافاتها على نظرياتٍ جدليَّة وأصول عقديَّة كبيرة كالأقانيم والآلهة وغيرها، ولا يُوجد عندهم أيُّ سند لنبيِّهم الذي يَنسبون أنفسَهم إليه، ولا يمكن لهم أن يَدَّعوا أنهم على ما كان عليه نبيُّهم مِن عبادات وأحكام! وبالإضافةِ إلى ذلك كانتْ لغةُ الإسلام لمرحلة طويلة مِن الوقت لغةً واحدةً هي لغة القرآن، بينما لم يتوفَّرْ هذا الأمر لنصارى أوروبا كما بينَّا.

كان طغيان الكنيسة عاملاً أساسيًّا في تفكُّكِ الإمبراطوريَّة النصرانيَّة، وقدِ التقت كلُّ ردود الأفعال على هذا الطغيان في وِجهةٍ واحدة: التفلُّت من نفوذ الكنيسة والخروج عن سيطرتها. وكانت أُولى بوادر ذلك التفلُّتِ تمرُّد الملوك؛ إذ كانوا يريدون نزعَ السلطة الزمنيَّة من يدِ الكنيسة وردَّها لهم، وإبقاء السلطة الرُّوحيَّة للكنيسة، فلمَّا جاءتْ دعوات "حركة الإصلاح الدِّيني" التي نشأتْ على أساس الانفصال عن الكَنيسة بسببِ طُغيانها بالأساس، وأخذتْ صورة الخِلاف المذهبي في أصولِ العقيدة، لما جاءتْ تلك الدعوات أدَّتْ إلى انفصال بعضِ الكنائس عنِ الكَنيسة الكاثوليكيَّة الأُم، ككنيسة بريطانيا وألمانيا وكنائس أخرى، فما كان مِن الملوك إلا أنْ عمِلوا على السيطرةِ على تلك الحرَكات الإصلاحيَّة، لا رغبةً في الإصلاح، إنما لأنَّ هذه الحركاتِ الانفصاليةَ كسبٌ لهم يمدُّهم بالقوَّة ويُضعِف سلطان الكنيسة، ومِن ثَمَّ يساعدهم على التفلُّت مِن نفوذها!.

ومن أمثلة حركات الإصلاح الدِّيني حركةُ مارتن لوثر (1483 - 1546) الذي استعان بالألمان بني جنسه ضدَّ الكنيسة اللاتينيَّة، ونَجَح في ذلك نجاحًا باهرًا، وانفصلتْ أمَّة الألمان عن نفوذ الكنيسة اللاتينية، وذات الأمْر حدَث لبقية الأمم الأوربية؛ إذ استقلَّت شيئًا فشيئًا عن الكنيسة الأم، وقلَّت روابطها ببعضها البعض، ومع الأيَّام ازدادتِ استقلالاً بشؤونها، حتى إذا اضمحلَّتِ النصرانية في نفوسِ الناس هناك قويت الرابطة العصبيَّة القوميَّة والوطنيَّة، وأصبحت هي الآصرةَ التي يتجمَّع حولها الناس[4].

بعدَ هذا العَرْض الموجز لملابسات نشأة القوميات والوطنيات الحديثة في أوروبا نتساءل: هل كان حتمًا على الأمَّة الإسلاميَّة أن تَخطوَ خطوات أوروبا في اتِّخاذ روابطِ التجمُّع القوميَّة والوطنيَّة وهي لم تمرَّ بتلك الظروف ولم تحدُث عندنا تلك الملابسات، فضلاً عن مخالفتها الصريحة لحقائقِ الإسلام؟!

والحقيقة أنَّ ذلك لم يكُن حتمًا، ولكنَّ تياراتٍ كثيرةً عمِلت على إحلال هذه الروابط مكانَ الرابطة الإسلاميَّة أو زِيادة عليها، وساعدتْ في ذلك ظروفُ العالم الإسلامي بعدَ سقوط الخلافة وبداية عهْد الاحتلال والاستضعاف الذي جلَب هذه الأفكارَ بقوَّة إلى العالَم العربي والإسلامي، وربَّى على عينه "أفراخًا" من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة على هذه الأفكار، حتى إذا شبُّوا وتبوَّؤوا المناصبَ القياديَّة في الحركات الاجتماعيَّة والسياسيَّة كانوا مِن دعاة القوميَّة والوطنيَّة.

التغريب:

صاحَبَ عهودَ الاستعمار التي ربضتْ على صدر الأمَّة الإسلاميَّة لعقودٍ طويلة عمليةُ "تغريب" أُريدَ منها نزْع مقوِّمات الشخصية المسلمة، وزَرْع مقومات الشخصية الغربيَّة الأوروبيَّة في عقول المسلمين؛ ذلك أن المحتلَّ الصليبيَّ أدرك تمامَ الإدراك أنه لا سبيلَ للسيطرة على العالَم الإسلاميِّ ومقدَّراته وإذلاله إلاَّ بتمييع شخصيَّتِه وطمْس هويَّتها الأصيلة؛ إذ لا يَسمح "الاستعلاء" الإسلامي الذي يرَى فيه المسلمون غيرَهم من الكفَّار ضالِّين جهلةً لا يعرفون الحق، لا يسمح هذا الاستعلاءُ بتقويض مكامن القوَّة في الأمَّة واستباحتها، فيَنبغي إذًا إحلالُ المفاهيم التي تُلغي الفوارق على أساس العقيدة؛ لتسهيلِ عملية الاحتلالِ والاغتصاب، وقدْ كان!.

ومِن ضِمن ما تَمَّ زحزحته عن وضعه الطبيعي هو المفهوم الإسلامي للهويَّة، فقد دخلت مفاهيم القوميَّة والوطنيَّة في كيان الأمَّة على شكلِ أفكار، ومِن ثَمَّ على شكل كيانات واقعيَّة تفرِّق الأمَّة وتشتِّتها!

كانتْ عمليَّة تمييع الهويَّة الإسلاميَّة عن طريقِ هذه الهويَّات الدخيلة عبارةً عن كسْر لحاجز حماية حضاري، حمَى الأمَّةَ الإسلاميَّة من هجمات المحتلِّين عبر العصور، فتكاتفتِ الأمة تحت لوائه لطرْد الغُزاة من الصليبيِّين والتتار وغيرهم مِن الشعوب، وكانت الهويَّةُ الإسلاميَّة صبغةً للبلاد الإسلاميَّة كلِّها لا تُشاركها فيها صبغةٌ أخرى، فيتنقَّل المسلم، بل وغير المسلم في بلاد المسلمين مِن غربِها إلى شرقِها، ومِن شَمالها إلى جنوبها على اختلافِ ولاياتها وإماراتها ودولها، يتنقَّل فلا يسأله أحدٌ عن رسومِ عبور "للحدود"! ولا يسأله أحدٌ عن "مواطنة" حتى ينال حقوقًا في بلد غير البلد الذي نشأ فيه! بل كان بالإمكان أن يتبوَّأ المسلم المناصبَ الإداريَّة والوزاريَّة في بلد لم ينشأْ فيه ولا يحمل فيه هوية "مواطنة"!.

لم يكن الاستعمار ليستمرَّ طويلاً في البلاد الإسلاميَّة؛ ذلك أنَّ معامل المقاومة لم يهدأ لها أُوار طوالَ فترة الاستعمار؛ فهذه الأمَّة لا تموت أبدًا، مهما بدا عليها من ظواهر التفكُّك والانهيار، ولكنَّ الحِقد الصَّليبي الذي يدفَع إلى إذلال العالَم الإسلامي والسيطرة عليه لم يكُن ليهدأ أيضًا، ولعاب الدول المحتلَّة لم يكُن ليكفَّ عن السيلان! فكان أنْ عمِلت هذه الدول الغربية قبلَ خروج جحافلها من بلاد المسلمين على ترسيخِ الأفكار الوطنيَّة في كيان الأمة، بل وتقسيمها واقعيًّا في الاتفاقيات المشؤومة وأبرزها "معاهدة سايكس - بيكو"، وعهدتْ إلى أفراخها ممَّن تربَّوا على عينها بإدارةِ شؤون هذه الكيانات الوليدة الجديدة التي سُمِّيت "دولاً" تحمل الطابع القومي والوطني.

واستمرارًا في عَرْض السياق التاريخي لعملية التغريب ونشوء القوميَّات والوطنيَّات في العالم العربي والإسلامي ننقُل هذه الفِقراتِ من كتاب "الأمة الإسلاميَّة من التبعية إلى الرِّيادة" للدكتور محمد محمد بدري، فقد أجاد في تلخيصِ هذا السياق التاريخي النَّكِد الذي مرَّ على الأمَّة الإسلاميَّة:

"ولكي يستريحَ الغربُ مِن شبح ائتلاف الأمَّة الإسلاميَّة الذي يُفزعه ويؤرَّقه، كان مِن الضروري تلوينَ الحياة المحليَّة في كلِّ بلد مِن بلاد (دار الإسلام) بلون خاص يستند في مقوماته إلى أصولِه الجاهلية الأولى، فتعود الحياةُ الاجتماعيَّة التي وحَّد الإسلام مظاهرها إلى الفُرْقة والتشعُّب، وذلك برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام.

"ومِن هنا كان أسلوبُ نبش الحضارات القديمة وإحياء معارِفها هو أحدَ الخيوط الأساسية التي تُكوِّن (الشَّرَكَ) الذي يُراد به احتواء المسلمين وأمَّتهم، وكان المخطَّط الخبيث الذي حمله الصليبيُّون وهم يجوسون ديارَ الإسلام "هو نبش الأرض لاستخراجِ حضارات ما قبل التاريخ، لذبذبة ولاءِ المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات؛ تمهيدًا لاقتلاعهم نهائيًّا من الولاء للإسلام ".

"ومِصداق هذا الكلام قولُ أحد المستشرقين في كتاب "الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته" وهو يتحدَّث عن أسلوبِ نَزْع ولاء المسلمين فيقول: إنَّنا في كلِّ بلد إسلامي دخلناه نبشْنا الأرض لنحصلَ على تراث الحضارات القديمة قبلَ الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أنَّ المسلمَ سيترك دِينه، ولكنَّه يكفينا منه تذبذبُ ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات"2.

وقد ظهرتِ الدعوةُ إلى إحياء الحضارات السابقة على الإسلام في وقتٍ واحد في تركيا والشام ومصر والعراق وشمالي إفريقيا والهند وإندونيسيا، بمظهرٍ (واحد) وأساليبَ (متشابهة)!!

ففي مصر بدأتِ النعرة (الفرعونيَّة) تطلُّ برأسها، وكثر التغنِّي بالأمجاد الحضاريَّة للفراعنة، فهذا الرافعي يقول:

أَنَا مِصْرِيٌّ بَنَانِي مَنْ بَنَى *** هَرَمَ الدَّهْرِ الَّذي أَعْيَا الفَنَا!

"وكما حَدَث ذلك في مصر، حدَث في العراق فرجعتْ إلى (الآشورية)، وفي اليمن فرجعتْ إلى (الحميرية)، وكل بقعة من (دار الإسلام) أخذتْ تُنادي بهذه النَّعرات الجاهلية التي تُحسِّن سمعةَ الجاهلية، وتبثُّ النعرات الانفصالية بين الأمَّة وبين ماضيها الحقيقي، أو على الأقل تشغلها عنه.

"وهكذا بعدَ أن كان البراء أمرًا ملازمًا تُجاه هذه النعرات الجاهلية، أصبح أمرًا لا وجودَ له إلا عندَ مَن رحِم الله".

"ولَمَّا أدرك أعداءُ الأمة الإسلاميَّة مدَى جدوى هذه الفِكرة في نزْع الولاء الإسلامي ليحلَّ محلَّه الولاء الجاهلي، وفي (تغييب) الهويَّة الإسلاميَّة التي تميِّز المسلم وتجعله مستعصيًا على الذوبان في الأمم الأخرى - لَمَّا أدرك الأعداء ذلك أخَذوا في بثِّ (سموم) الفِكرة الوطنيَّة، والتي تبثُّ الشعور بالوطنيَّة الإقليميَّة في الأمَّة، وتنادي بأنَّ الأمَّة تقوم - حسب تصورهم - على الجِنس لا على الدِّين[5]، فالوطنيُّون يحبُّون أبناءَ وطنهم وإن كانوا على غير مِلَّتهم إذا لم يكونوا في وطنهم!!

"وهكذا بفِعل هذه الدعوة الخبيثة أصبح الوطنُ هو الرقعةَ الضيِّقة التي يعيش فيها المواطن، وهو مجال أحلامِه وأمانيه، بغضِّ النظر عن بقيةِ أوطان المسلمين، فهم غرباءُ عنه وعن وطنه، بل كثيرًا ما حصلتِ الحروب والاصطدامات بين الأقطارِ المتجاورة"!

"وصارتِ الوطنيَّة هي تقديس الوطَن بحيث يصير الحبُّ فيه والبُغض لأجله، والقِتال مِن أجله وإنفاق الأموالِ مِن أجله حتى يطغَى على الدِّين، وحتى تحلَّ الرابطة الوطنيَّة محلَّ الرابطة الدِّينيَّة"!! بل إنَّ الأمر ليصل إلى جعْل الوطن إلهًا يستحقُّ العبادة مع ربِّ العالمين، وكما صرَّح بذلك أحمد شوقي وهو يتحدَّث عن مصر:

وَجْهُ الكِنَانَةِ لَيْسَ يَغْضَبُ رَبُّكُمْ *** أَنْ تَجْعَلُوهُ كَوَجْهِهِ مَعْبُودَا

وَلُّوا إِلَيْهِ فِي الدُّرُوسِ وُجُوهَكُمْ *** وَإِذَا فَزِعْتُمْ فَاعْبُدُوهُ هُجُودَا

"ولم يكُن شوقي يعبِّر في ذلك عن مجرَّد نزوة مِن نزوات الجرأة التي يُولَع بها الشعراء؛ طلبًا للغرابة وادعاءً لعُمق الفكر، وإنما كان في الحقيقة يعبِّر عن تيار الوطنيَّة الذي بدأ في الاستقرار في دِيار الإسلام منذُ ذلك الحين..والذي لم تنطفئْ نيرانه حتى اليوم.."[6].

وهكذا استقرَّتِ الهويات القوميَّة والوطنيَّة، وتحوَّلت إلى "ثوابت" لا يُمكن الحديث عن تجاوزها إلاَّ بمنطق "الخيانة"! واصطبغتِ الأنظمة العلمانيَّة العميلة التي زَرَعها الغربُ ودعمها بهذه الهويَّات[7]، وكانت أنظمةً دكتاتوريةً وعسكريةً في معظمها، مما أدَّى إلى زيادةِ الشُّعور بفقدان الانتماء لدَى الأمة تُجاه هذه الأنظمة، وازداد الإحساسُ باللامبالاة وتجذَّر وتعمَّق؛ فالأمَّة التي لم تعتدْ على أَطْرِ الحاكِم المسلم الذي يُقيمُ شريعةَ الله على الحقِّ والعدل كان مِن الطبيعي ألا تُبالي بهذا الواجب تُجاه الحكَّام العلمانيِّين العملاء، وقد كان هذا مع الأسَف!.

فتوالتِ النظم العميلة التي تحكُم الأمَّة الإسلاميَّة بالعلمانيَّة، وتتَّخذ مِن "الوطنية" هويَّة لها وشعارًا، وأصبح الأمر في حسِّ الأمة أمرَ غالبٍ ومغلوب، لا عَلاقة لها به إلا أن تهتفَ في أحيان لزعيم يظهر، ولكن سرعانَ ما يتَّضح لها أنَّها كانتْ تهتف لطاغية عميل للقُوَى العالمية المتحكِّمة في شؤونها العامَّة! والأمَّة التي لا تُدير شؤونها العامَّة، ولا تُدار هذه الشؤون لها بناءً على مشربها الحضاري الإسلامي، لا بدَّ أن يخفتَ فيها وهج الهويَّة الإسلاميَّة وتخفت فاعليَّتها؛ فالهُويَّة - ككلِّ مفهوم - شعورٌ وممارسة، وهي ممارسةٌ جماعيَّة على أسس جامِعة ثابتة، فإذا ما غابتْ هذه الممارسة الجماعيَّة ضاعَ التأثيرُ الحقيقي لها، وانحصرتِ اهتمامات الأفراد بشؤونهم الذاتية، فلم تستطعْ هذه الدول بنظمها وهويَّاتها الدخيلة التي تمسَّحت بها - سواء كانت هي القوميَّة أو الوطنيَّة - أن تحقِّق ذلك الاستقطاب والجذْب الذي تحقِّقه الهويَّة الإسلاميَّة، التي هي الهويَّة الأصيلة لهذه الأمَّة، وبذلك فشِلتْ هذه الهويَّات بإخراج الأمَّة مِن حالة "الاغتراب" التي أحدثها الغرب المحتلُّ، بل زادتها وبالاً بسببِ الفراغ الاجتماعي الذي أحدثتْه بعدَ طمس معالم الهويَّة الإسلاميَّة وقتْل فاعليَّتها الحقيقيَّة.

______________

[1] لقراءة بعض الأمثلة من السِّيرة راجع كتاب "الطريق إلى الجنة" فصل "الإسلام: هُوية تجمع الأمة" لفضيلة الشيخ عبدالمجيد الشاذلي.

[2] يغفُل العلمانيون أو يتغافلون أنَّ الحكم الإسلامي في عهودِه الأمويَّة والعباسيَّة والمملوكيَّة والعثمانيَّة كان أكثر عدلاً بدرجاتٍ كبيرة مِن عهود الحُكم العلماني، والتي ما زالت تظلِّل الكثيرَ مِن بلدان العالم الإسلامي وما زالت جرائمها الوحشية تنضخ على مرأًى من العالم ومسمَع! ومتغافلين في الوقت ذاته أنَّها كانت نُظمًا تنتمي إلى هوية الأمَّة الإسلاميَّة وليستْ منبتَّة الصلة عنها كما هو الحال في الأنظِمة العلمانية! ومتغافلين ثالثًا عن العِزَّة والكرامة والقوة والرِّيادة التي سادتْ تلك العهودَ على ما فيها، في مقابل التخلُّف والتبعية والذل والضعف المهين الذي ساد - وما زال - في عهودِ الحُكم العلماني!

[3] الاتجاهات الوطنيَّة في الأدب المعاصر، د. محمد محمد حسين.

[4] مستفاد مِن كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" للأستاذ محمد قطب، وانظر أيضًا كتاب: "ماذا خسِر العالم بانحطاط المسلمين؟ " للشيخ أبي الحسن النَّدوي.

[5] الوطنيَّة دعوةٌ تختلف عن القوميَّة، فالقوميَّة تقوم على العرق أو الجنس بغضِّ النظر عن موطنه، كالجِنس العربي، والتركي، والفارسي، والبربري، والوطنيَّة تقوم على انتماء لقطعة محدودة من الأرض بغضِّ النظر عن أصولِ المنتمي العرقية، فالمصري ذو الأصل العربي يستوي فيها عندَ المصري ذي الأصل الفرعوني، أو الإغريقي، أو المملوكي، أو العثماني، أو الحبشي، أو البربري، أو البلقاني.

[6] الأمَّة الإسلامية من التبعية إلى الريادة "بتصرّف يسير"، د. محمد محمد بدري.

[7] في الظاهر تجمُّلاً للشعوب، وإلا فهي مفتقدة على الحقيقة لأي حسٍّ قومي أو وطني حتى وإن ناقض مفهوم الولاء في الإسلام! بل هي منسلخةٌ من الانتماء لمصالح أمَّتها على كلِّ المستويات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: موقع المختار الإسلامي