الثقافة الأدبية من مقومات الداعية الناجح
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، ورسول الإسلام رسول عربي بعث للناس كافة، ومعجزة الإسلام الكبرى وآيته العظمى.
وهي القرآن الكريم – معجزة بيانية وأدبية أثرت في مؤيديها ومعارضيها على السواء، بل كان معارضوها لا يستطيعون مقاومة سماعها دون استراق السمع لها والتأثر بها.
ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في أكثر من موضع، وأكد على أنه نزل عربيا غير ذي عوج، بلسان عربي مبين؛ لتتحقق البشارة والنذارة، وليتحقق التعقل والتفهم والتدبر لآيات الله تعالى، نذكر من ذلك:
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)) (يوسف).
وقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)) (النحل).
وقوله جل شأنه: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) (الشعراء).
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)) (طه).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)) (الزمر).
وقوله: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)) (فصلت).
وقوله عز مِنْ قائل: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)) (الشورى).
وقوله جلت قدرته: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)) (الزخرف).
وروى البخاري بسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا (صحيح البخاري. كتاب فضائل القرآن. باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب وقول الله تعالى “قرآنا عربيا” “بلسان عربي مبين).
الثقافة الأدبية مطلوبة للمسلم بله الداعية:
ولما كان القرآن الكريم هو المصدر الأول للداعية، الذي منه يستمد، وعليه يعول، وإليه يرجع، وبه يستشهد ـ وجب عليه أن يتفقه في التعامل معه، وحسن الاستشهاد به، ويتمرس بأسلوبه وبيانه؛ حتى يتسنى له خدمة الدعوة.
وإذا كان تعلم العربية مطلوبا لكل مسلم كما قرر الإمام الشافعي حين قال: “فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك” (الرسالة: 48-49. تحقيق أحمد شاكر. دار الكتب العلمية). فما بالنا بعلماء الإسلام ودعاته؟
ومن هنا كان على المشتغلين بالعلم والاجتهاد والفقه والأصول وشؤون الدعوة أن يتضلعوا من علوم اللغة العربية وآدابها: فقهًا في اللغة، ومعرفة بتاريخها، وتعمقًا في لهجاتها، وتأملا في دلالاتها، وعلما ومهارة في نحوها وصرفها، واطلاعًا وحفظًا لشعرها ونثرها بما ينهض بهم لاستيعاب الرسالة الإسلامية، وفهم تعاليمها ومبادئها ومقرراتها ونصوصها كما هي، وما يمكنهم من تبليغ هذه الرسالة كما فهموها في ضوء فهم اللغة العربية الشامل، وهي اللسان الذي نزل به الإسلام.
ولقد قرر الإمام الشافعي، وهو فصيح يحتج بكلامه في اللغة: أنه “لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جَهِلَ سَعةَ لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومَن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه وترك موضع حظه وكان يجمع مع النصيحة لهم قياما بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله وطاعة الله جامعة للخير” (الرسالة: 50).
فلن يستقيم للمسلم فهم الإسلام إلا بمعرفته بالعربية، ولن يستطيع الداعية أن يبلغ الرسالة ـ فضلا عن فهمها ـ إلا بالاطلاع الشامل على آدابها وأدبها.
الثقافة الأدبية من محاور النهضة والإصلاح:
إن الاهتمام باللغة العربية وآدابها شعرًا ونثرًا كان محط عناية الخلفاء الراشدين، وأئمة التابعين، والعلماء النافعين، وأحد محاور النهضة والإصلاح والتجديد عند دعاة الإسلام ومصلحيه على مر العصور؛ فهاهم الخلفاء الراشدون كان لكل منهم اهتمام بالشعر والأدب، ويروى عن كل منهم شعر، وبخاصة الإمام علي رضي الله عنه، ومن لم يكن منهم أديبًا شاعرا كان يروي الشعر ويحرص على روايته.
بل إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له شعراء مثل: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وقد كان الشعر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد أسلحة المقاومة والإعلام، حتى قال لحسان رضي الله عنه: “اهجهم وروح القدس معك”.
وكان لرموز الإصلاح والتجديد والنهضة على مر العصور وعي بهذه القضية، التي تعتبر إحدى مرتكزات التجديد والنهضة، حتى إن الذاكرة المسلمة لا تكاد تذكر إلا من كان لهم صلة واهتمام وعناية بهذه القضية؛ ذلك، أن العلماء والدعاة والمجددين لن يقوموا بدورهم دون أن يرتكزوا على هذا المحور الهام.. فبعد الخلفاء الراشدين والصحابة جاء علماء ومجددون نفع الله بهم الأمة، وكان من مناطات هذا النفع ارتكازهم على هذه الركيزة الأساسية، ومنهم: فقهاء التابعين، وأئمة التزكية والسلوك، والأئمة الأربعة وبخاصة الإمام الشافعي، والإمام ابن تيمية ومدرسته، والعز بن عبد السلام، والقرافي، والشاطبي، والشوكاني، وزاهد الكوثري، ومحمد عبده، ورشيد رضا، ومحمد دراز، والطاهر بن عاشور، والسعدي، ومحمود شاكر، والغزالي، وعلي الطنطاوي، والقرضاوي، والشعراوي، وغيرهم.
العناية بالثقافة الأدبية لازمة للبلاغ:
إن النفس البشرية قد تتأثر بالبيان والبلاغة والشعر والنثر بما لا تتأثر معه بغيره من الأساليب؛ ولذلك كان من البيان سحر يسحر النفوس، ويبهج الأرواح، ويقنع العقول، ويمتع الوجدان، وقد روى البخاري بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ” (صحيح البخاري: كتاب الطب. باب إن من البيان سحرا).
ولهذا يقول أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي عن شعور النفس بجمال الأدب والبيان: “فنيةُ النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وترداد معانيه إلا تهيئة الزيادة في شعور النفس” (وحي القلم: 3/ 213).
وما ينبغي لداعية أن يسلك سيبل الدعوة دون أن يكون له أوفى الحظ وأفر النصيب من هذه الثقافة، يقول الداعية الكبير محمد أحمد الراشد: “وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس، والنشر في الصحف، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأويل آي القرآن؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان، أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان؟ وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسه لهذه العلوم والآداب فيقول: ليس لي وقت، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا، ولا شرع له السهر!” (نحو المعالي: 94. مؤسسة الرسالة).
إذًا فالعلم بالعربية أحد المحاور اللازمة للبلاغ وحسن خدمة الإسلام بالإضافة إلى محاور في علوم أخرى؛ ولهذا يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن الداعية ليس من الضروري أن يكون راسخ القدم في علوم السنة، وليس من الضروري أن يكون فقيها كأبي حنيفة ومالك وابن حنبل، إنما المهم أن يكون عنده قدر من الصحة العقلية وعلم بأوليات الفقه والسنة وسور القرآن وأوليات اللغة العربية بحيث يجعله كلُّ هذا يحسن خدمة الإسلام والدعوة” (مقالات الشيخ الغزالي: 3/159).
الجهل باللغة والأدب مفسد للدعوة:
وفي المقابل، فإن الجهل بالعربية وآدابها لن يؤدي معه الداعية رسالته، ولن يبلغ دعوته، بل إن الشيخ عبد العزيز بن باز قرر أن عدم العناية باللغة العربية يترتب عليه مفاسد كبيرة في مجال الدعوة (مجموع فتاوى ابن باز: 2/342).
وذلك أنه بذلك يغير المعاني، ويفسد الأذواق، وينفر الأسماع، فحسبك أن تجلس إلى خطيب أو داعية يتحدث وهو يلحن في اللغة أو يخطئ في النصوص الشرعية من هذه الناحية، فيكفيك من شر سماعه.
يقول شيخنا د. يوسف القرضاوي: “وانظر كم يقشعر جلدك، ويضطرب قلبك، ويتأذى سمعك، حين تسمع داعية يقول: التُّبْعة، وهو يريد التَّبِعة، ويذكر الأُهُبَّة، وهو يريد الأُهْبَة.. وآخر ينصب المرفوع، ويرفع المنصوب، ولا يفرق بين فاعل ومفعول به، ولا يبالي بإضافة ولا حرف جر” (ثقافة الداعية: 98. مكتبة وهبة. الطبعة العاشرة. 1416هـ/ 1996م).
بل إن اللحن فضلا عن إفساده للمعنى قد يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال، يقول شيخنا: “وكثيرا ما يؤدي اللحن إلى إفساد المعنى وإخراجه إلى ما يناقض الشرع والعقل، وشر ما يكون ذلك إذا كان اللحن في كتاب الله، كذلك الإمام الذي صلى أعرابي خلفه، فسمعه يقرأ: “ولا تَنكحوا المشركين حتى يؤمنوا” قال: ولا إن آمنوا أيضا لن نَنكحهم! فقيل له: إنه يلحن، وليس هكذا يُقرأ. فقال: أخِّروه قبحه الله.. لا تجعلوه إماما فإنه يحل ما حرم الله” (ثقافة الداعية: 98).
إن الداعية الذي لا يستقيم لسانه على قواعد العربية ويطالع آدابها لا يؤتمن على فهم الإسلام؛ فضلا عن أن يقوم بمهمة البلاغ؛ لأن القرآن معجزة بيانية أدبية، والسنة النبوية عربية، وما لم يتفقه الداعية بالوعاء الذي احتوى كلام الوحي فلا يجوز له أن يشتغل بالدعوة؛ حتى لا يفسد الأذواق، ويقلب المعاني، ويحل الحرام، ويحرم الحلال.
المصدر: مهارات الدعوة