الإنسان الاستخلافي أولا
من عجائب هذا الزمان أن عددا من دول العالم العربي والإسلامي ما تزال تنظر إلى التعليم باعتباره مجالا غير منتج، وتتعامل معه بعقلية التحكم وبالمقاربة الأمنية. وما دام أن كل المؤشرات تثبت كارثة التعليم في أغلب هذه الدول؛ فهل يبقى متسع، إذا كانت عندنا فعلا نية الإصلاح والاستدراك، أن نترك مجالا هو أخطر مجالات اشتغالنا نَهْبا للنزاعات والصراعات وتضارب الآراء؛ بينما حالنا المبكي يقتضي أن ننصت للجميع، ونشرك الجميع، ولا نتعامل بمنطق الغلبة، ونتلاعب بعقول الناشئة؛ فنضع مستقبل الوطن بأكمله على طاولة كف عفريت كما يقال. كل الدول التي تحترم نفسها، وعندها تصور استشرافي حقيقي نحو المستقبل، ويسكنها هاجس الرقي والتقدم والنماء والازدهار؛ لا تقدم شيئا على إصلاح منظومتها التعليمة؛ لأنها المنطلق الأول لأية حضارة وأية نهضة وأي تقدم.
إن أزمة أمتنا اليوم هي أزمة إنسان؛ في أخلاقه وتكوينه وعلاقاته الاجتماعية، وليس عندنا بديل، إذا صَدُقت نية الإصلاح عندنا، عن توجيه اهتمامنا نحو الإنسان أولا. إنه المنطلق والغاية. ولن تدور عجلة النهوض الحضاري دون بناء هذا الإنسان الذي يحمل مشعل النهضة، ويمضي نحو الغد المشرق، أما ما نقوم به اليوم إنما هو حكم قطعي على مصير أوطاننا؛ يُخلدنا إلى الأرض ويُخيب آملنا وينهي طموحنا في أي مستقبل مشرق.
الإنسان بوصلة الإصلاح وحامل النهضة، وما دام الاشتغال الأول خارج دائرة الفعل الحقيقي فلا أمل ولا غد ولا مستقبل، وإنما هو زيف وتزييف وإلهاء بمعاركة فارغة لا تغني ولا تسمن من جوع، تُمِد عُمر المستفيدين من وضعنا الحالي، وتبقي الفقير فقيرا والغني غنيا، والقوي قويا والضعيف ضعيفا. إنها سياسة الإشغال عن الفعل الحقيقي ما دام الجُباة معجبين بهذا الوضع.
إننا نحتاج إلى إنسان له صفات هي العاصم من كل طيش أو زلل، تدفعه نحو الفعل الحضاري المنشود، ويمكن إجمالها في خمس صفات.
أولها: الحياء دون خجل، ذلك أن الإنسان الذي نُحَمله أمانة أوطاننا، ونضع رقابنا بين يديه ليحملنا نحو المستقبل ينبغي أن يكون حَيِيَّا؛ من ربه أولا، ليكن هذا الحياء من ربه مانعا له من كل ما يمكن أن يُعيق سيره وسيرنا معه؛ من قبيح الفعال والأقوال، فعلمه بمراقبة الله له يُخجله من نفسه، ويمنعه من ظلمها وظلم غيره بتزوير أو سرقة أو ظلم أو نفاق أو أي سلوك يُؤخرنا عن ركب الحضارة. فالذي يستحيي من ربه يجعل له رقيبا من نفسه؛ لا يحتاج منه رقابة بشرية، ولا زجرا من القانون أو غيره.
ثانيها: القوة، أي أن الإنسان الذي نريده أن يحمل المشعل ينبغي أن يكون قويا في العمل الذي يسند إليه، يتقنه ويبدع فيه، ويصبح حجة فيه؛ حتى لا يتسرب إلينا الضعف من جهته. نحتاج إتقانا علميا لكل ما نقوم به، فـ"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ ". نحتاج الإتقان في كل شيء، في جميع الحرف والمهن والتخصصات، فالطبيب إذا كان قويا في تخصصه لا يترك لنا العاهات المستديمة، ولا يتلاعب بالمواطن بأدوية لا تغني ولا تسمن من جوع... والمهندس إذا أتقن عمله نسكن مساكن آمنين، ونمر بقناطر مرتاحين، والمدرس إذا أتقن عمله لا يخرج طلابا غشاشين، وهكذا مع باقي المهن والحرف...
وثالث هذه الصفات: الأمانة، أي أنه علينا أن نُعَلم الأجيال أن كل ما يقومون به يدخل تحت دائرة الأمانة؛ فالأبناء عند الآباء أمانة، ومن فَرَّط فيها فقد ضيع أمانة التربية والرعاية التي كُلف بها، ويكون آثما إذ تخلف عن أداء واجبه؛ وأخرج للمجتمع إنسانا فاسدا يضره ولا ينفعه. والوظيفة كيفما كانت أمانة؛ يكون خائنا للأمانة من فَرَّط في أدائها حق الأداء، بل سيكون راتبه الذي يتقاضاه مقابل الخدمة التي يؤديها سحتا إذا قَصَّر في أدائها؛ فإنما الأجر مقابل الجهد. والدولة أمانة في يد الساسة، يكون أجرهم على قدر الجهد الذي يبذلونه في إصلاحها وأداء أمانة رعايتها والحفاظ عليها وتطويرها، وكل إخلال أو تقصير في أداء هذه الأمانة؛ يدخلها في دائرة الإثم دون شك...
ورابع الصفات: الصدق، فالذي يكذب في أي مجال يفتح الباب مشرعا لكوارث أخرى تكون نتيجة لذلك السلوك القاتل؛ وما أكثر المشكلات التي نراها أمامنا؛ سببها الكذب. وقد وصل الأمر عندنا حتى صار الكذب يوصف بالبياض! فيقول بعضهم (كذبة بيضاء)، والحق أنه "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ". النحل (105).
وخامس الصفات الإبداع: ومعناها أن الطاقات البشرية التي نريدها ونحتاجها ينبغي أن نربي فيها صفة الإبداع والتجديد، عوض الجمود والتقليد؛ في أي مجال من المجالات: في الدين والعلم والاقتصاد والسياسة وغير ذلك. إننا نحتاج إنسانا مبدعا، وليس إنسانا مقلدا؛ في كل شيء. سواء أكان هذا التقليد مرتبطا بالماضي أم بالغرب، وبالطبع في إطار الحفاظ على الهوية والثوابت.
المعركة الحقيقة اليوم معركة الإنسان، وينبغي أن تتجه بوصلة الإصلاح أولا نحو إصلاح الإنسان؛ لينطلق منه الإصلاح. إننا نحتاج إلى إنسان استخلافي؛ واع بمهمة الاستخلاف في الأرض، ويدرك جيدا معنى قوله تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا". الأحزاب 72
ـــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع الإسلام اليوم.