الإطار العام لحوار مثمر مع الآخرين
الحوار الإيجابي الصحي هو الحوار الموضوعي، الذي يطرح الإيجابيات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات ويرى أيضًا إمكانيات التغلب عليها، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها، وهو الحوار المتكافئ الذي يعطي لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي، ويحترم الرأي الآخر، ويوقن بحتمية الخلاف في الرأي بين البشر وآداب الخلاف وتقبله.
الطريق من هنا:
• السماع الكامل للآخر، وإعطاء الفرصة له حتى يُتم كلامه، مع استيضاح أي غموض فيما يعرضه من أفكار، وعدم الطمع في الكلام بدلًا منه؛ لأن هذا الطمع يزهدنا في أقوال مَن نتحاور معه، ويحرمنا من تَدبّرها، كما أن السماع الكامل للآخر يُشْعره باهتمامنا بما يقول، وجديتنا في التحاور، وهذا يقلل الحافز العدائي لديه، ويجعله يشعر بأنك محايد.
لا تقاطع محدثك، ودعه يعرض قضيته كاملة حتى لا يشعر بأنك لم تفهمه، كما أنك إذا قاطعته أثناء كلامه فإنك تحفزه نفسيًا على عدم الاستماع إليك؛ لأن الشخص الذي يبقى لديه كلام في صدره سيركز تفكيره في كيفية التحدث، ولن يستطيع الإنصات لك جيدًا ولا فهم ما تقوله.
فإذا تبين لنا خطأ المتحدث، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ، مهما كان عناده وغلظته؛ فإن أشد الناس جفافًا في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين ويتجاوب إزاء مستمع صبور عطوف، يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب.
• هدف الحوار: هو الاستفادة من الأفكار وليس تخطئة الأشخاص؛ ولذلك فإن من أهم ضوابط الحوار التركيز على فض الاشتباكات الفكرية، دون التعرض السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل أو تجريح، فلا خلاف مطلقًا بين أشخاص المتحاورين،
وإنما بين أفكارهم، والفكرة الحسنة تُمْتدح، بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ تُرَاجع دون تسفيه قائلها أو التهكم منه، فالنظر دائمًا إلى الآخر من خلال ما قال، لا من خلال من قال، كن دقيقًا، وتحدث عن المشكلة الصعبة وليس عن الشخص الصعب.
إن التعميمات؛ مثل قول: «كلما حضرنا اجتماعًا تلجأ إلى المبالغة...» لن تساعد أبدًا، وعليك أن تعطي أو تقدّم أمثلة محددة بدلًا من ذلك.
• ترك المراء والجدل، والتزام بيان الحق بالحجج والبراهين، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا» [رواه أبو داود]، فرغم القناعة بملكية الحق لا يكون إثباته عن طريق المراء والجدل، وإنما عبر الطرق والمسارات الشرعية التي تصل بسالكها إلى بيان الحق، وعدم الانتقال بأي حال من الأحوال من شواهد الأدلة إلى دوافع الآخر، أو من إقامة الحجج للتدليل على صحة ما نراه ونعتقده إلى إثارة الجدل للتدليل على خطأ الآخر وخبث بواعثه، فيدور حوارنا في حلقة مفرغة، ويتفرع إلى مضايق ومتاهات تتمزق فيها الأفكار، ويُقْتل التفكر والتدبر على مذابح المراء والجدل العقيم!!
إن المراء يغلق باب الحوار ويلغيه؛ لأنه يدفع طرفي الحوار إلى التصور الخاطئ بأن حوارهما هو مباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتل أو مقتول، فلا يبحث كل منهما عن حقائق أو أدلة، وإنما يكون بحثه وجهده في محاولة إغراق الآخر في طوفان من الكلام، الذي يُضيع الوقت والجهد في غير فائدة، ويوغر الصدور، ويكرس الفرقة.
رُوي أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى رأى ولده حمادًا يناظر في المسجد فنهاه، فقال له ولده: «أما كنت تناظر؟!»، قال: «بلى، ولكن كنا كأن على رءوسنا الطير من أن يخرج الباطل على لسان الخصم؛ بل كنا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم كذلك فافعلوا»!!
وهذه هي سمة سلفنا الصالح في حواراتهم، فقد ذُكِر عن حاتم الأصم أنه قال: «معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي»، قالوا: «وما هي؟»، قال: «أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه»، فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: «سبحان الله! ما كان أعقله من رجل».
• البدء بالإيجابي قبل السلبي من الأساليب المحبّبة في الحوار؛ حيث تبدأ بالإيجابي فتشيد به وتثمّنه، ثمّ تنتهي إلى السلبي، وبهذه الطريقة تكون قد جعلت من الإيجابيات مدخلًا سهلًا للمناقشة؛ لأنّك بذلك تفتح مسامع القلب قبل الأذنين ليستمع الآخر إلى نقدك أو نصيحتك، إنّك تقول له: إنّه جيد وطيب وصالح ومحترم، لكن ثمة مؤاخذات لو انتبه إليها لكان أكثر حسنًا وصلاحًا، فإذا ما احترمت إيجابيات الشخص الآخر وحفظتها له، ولم تنسفها أو تصادرها لمجرد ذنب أو خطأ أو إساءة، فإنك سوف تفتح أبواب الاستماع إلى ما تقول على مصراعيها، وبذلك تحقق هدفك من الحوار في إيصال رسالة للآخر، كما إنك لم تجرح إحساسه ولم تخدش مشاعره. وقد دعا القرآن المسلمين إلى احترام إيجابيات الناس في قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} [الأعراف:٨٥].
وقد يكون السلبي لدى أحد الأشخاص أكثر من الإيجابي بحيث يغطي عليه، ويكون الإيجابي نادرًا للدرجة التي يتعين عليك أن تبحث أو تنقب عنه تنقيبًا، فلا تعدم المحاولة؛ لأن ذلك يجعلك في نظره كريم الطبع.
مر عيسى عليه السلام وحواريوه على جثة كلب متفسخة، فقال الحواريون: «ما أنتن جيفة هذا الكلب!»، فقال عيسى: «انظروا إلى أسنانه، ما أشد بياضها!».
لقد كان الحواريون محقين في نقدهم للجثة المتفسخة التي تنبعث منها روائح كريهة، لكنهم ركزوا على السلبي (الطاغي) على الجثة، أما المسيح عليه السلام فكان ناقدًا لا تفوته اللفتة الإيجابية الصغيرة، حتى وإن كانت ضائعة وسط هذا السلبي من النتانة.
ثم إن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، ويصير به الحوار هادئًا وهادفًا.
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقًا من التلاقي والقبول النفسي والإقبال؛ مما يقلل الجفوة ويردم الهوة، ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد، والحال ينعكس لو استفتح المتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع، فذلك يجعل ميدان الحوار ضيقًا وأمده قصيرًا، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر، ويحمل كل طرف على التحفز في الرد على صاحبه متتبعًا لثغراته وزلاته، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها، وهكذا يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف.
يقول جون ماكسويل، رائد فن الإدارة العالمي الشهير: «ناقش وحاور مَن أمامك مستخدمًا نظرية 101%».
وما يقصده ماكسويل أنه ليس من الذكاء أن نجادل لمجرد المجادلة بلا فائدة تذكر؛ بل إن فن الحوار الحقيقي يكمن في أن تحاول أن تجد الواحد في المائة المشترك في حديث من أمامك، وتعطيه موافقتك الكاملة بنسبة مائة في المائة حتى تكسبه، وبعد أن تنجح في الدخول إلى عقله المتحجر، وتكسبه في صفك عد، إن شئت، لنقطة البداية.
والخلاصة: أنه يجب ألا نحاول التدليل على صحة موقفنا بالكامل، وأن الطرف الآخر مخطئ تمامًا في كل ما يقول، فإذا أردنا الإقناع فما علينا إلا أن نقرأ بعض النقاط التي يوردها الآخر، حتى ولو كانت بسيطة، ونبين له أننا نتفق معه فيها، بعدها سيصبح أكثر ميلًا للإقرار بوجهة نظرنا، ونحاول دائمًا أن نكرر هذه العبارة «أنا أتفهم وجهة نظرك»، «أنا أقدر ما تقول وأشاركك في شعورك».
• عندما يحاول المتحدث فرض وجهة نظره بطريقة الإقناع القوي بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة، يزرع في المستمع مقاومة هذا التوجه ورفضه؛ لأن المستمع يستنتج من سلوك المتحدث أنه ينظر إليه على أنه غير كفء لاتخاذ القرار المناسب بنفسه، ومن ثم يأخذ موقفًا دفاعيًا يجعل المناقشة لا تراوح مكانها.
غير أن المتحدث عندما يعطي الانطباع في حديثه أنه يرغب بالتعاون مع المتحدث إليه يفهم الطرف الآخر من هذا أن المتحدث يقدر قدرته على البحث عن حل والرغبة في التعاون، وبالتالي فإن المستمع يشترك بطريقة تلقائية تعاونية في المناقشة، ويسهم إسهامًا كبيرًا في البحث عن حل بطريقة تنم عن المرونة، ومن ثم الحرية في مناقشة الموضوع.
• عندما يقوم المتحدث باستخدام استراتيجيات غريبة؛ مثل الغموض في الكلام، فإن ذلك قد يعبر عن سذاجة وعدم مصداقية أو إمكانية خداع، وهنا نجد المستمع يتخذ موقفًا دفاعيًا؛ ذلك أن الناس لا يريدون أن يكونوا ضحايا للغموض والدوافع الذاتية، لكن المستمع عندما يدرك أن المتحدث يتكلم بتلقائية طبيعية، والتي تعني الوضوح والأمانة والاستجابة حسب طبيعة الأحوال المحيطة، فإنه يبادل المتحدث بنفس الطريقة، وهنا تنساب المعلومات المتبادلة، ويتم فتح ميدان خصب لتنمية المهارات المختلفة، واستفادة كلاهما من الآخر.
ـــــــــــــــــــــ
المصدر: موقع صيد الفوائد