اضطراب الموازيين واختلالها
عند اختلال الموازين واضطرابها، وهذا لا يكون إلا عند فساد التصور أو الاعتقاد أو الإرادة، يذم الإنسان الآخرين بما ينبغي أن يُمدحوا به، ويمدحهم بما ينبغي أن يُذمُّوا به، وهذا لا يكون إلا في زمان غياب أو خفوت وضعف أثر الرسالات، التي أنزلها الله لتكون هادية للناس، تخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
وقد سجلت نصوص الشريعة ذلك الانتكاس الذي يعتري الجنس البشري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خَدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»، وهذه السنوات تكون قُبَيل الساعة، عند ضعف آثار النبوة، وانقلاب المعايير لدى الناس، فالكاذب عندهم صادق فيُصدَّق، والصادق كاذب فيُكذَّب، والأمين خائن فيخون، والخائن أمين فيؤتمن، ويخوض المرء التافه في الأمور العامة، التي لا ينبغي الدخول فيها إلا من قادة المسلمين وزعمائهم.
وقد سجل القرآن ذلك الانقلاب في المعايير واختلال القيم واضطرابها في أكثر من مشهد، وأكثر من أمة؛ مما يعني أن هذا عيب تصاب به النفس البشرية غير السوية عندما تبعد عن هداية الله، فقد سجل القرآن نقمة الكفار على المؤمنين إيمانهم بالله، قال تعالى: }وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{[البروج:8]، فلم ينقموا عليهم مسلكًا ولا تصرفًا ولا فكرة؛ بل كانت نقمتهم محصورة في تصديقهم للمرسلين، وإيمانهم بما جاءوهم به وبلغوهم عن رب العالمين، فما كرهوا ولا عابوا شيئًا من أمرهم سوى إيمانهم بالله، وهذا مما لا يكره ولا يعاب إلا عند فساد التصور وذهاب الإيمان، وقد أداهم ذلك إلى أن قتلوا المؤمنين وأحرقوهم بالنار بعدما خدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وألقوهم فيها.
وأهل الفساد والضلال لا يريدون أن يتميز أحد عنهم بخلال أو صفات حسنة، وبدلًا من تنافسهم مع الصالحين ليكونوا أفضل منهم وأحسن، لكن نظرًا لضعفهم وفساد إرادتهم لم يستطيعوا اللحاق بالصالحين، فاتجهوا إلى ذمهم وتنقصهم، وعقابهم بأنواع العقوبات المختلفة، ولم يقتصر هذا على الوثنيين؛ بل تعداهم إلى أصحاب الرسالات السابقة من اليهود والنصارى، قال الله تعالى: }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ{[المائدة:59]؛ أي: هل لكم ما تكرهونه منا إلا إيماننا بالله وما أنزل إلينا، وشهادتنا عليكم بالفسق، وكذلك نقم قوم لوط من لوط والمؤمنين من أهله، كرهوا منهم ابتعادهم عن الفاحشة، وتعاليهم عليها، فتنادوا بإخراجهم من بلدهم؛ فإنهم أناس طاهرون، وكانت طهارتهم مسوغًا كبيرًا لتقديرهم واحترامهم، ولكن انتكاس فطرتهم جعلهم يعدون ما يمدح به المرء هو ما يذم به }فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ{[النمل:56]، فلم يكن لهم جواب لما دعاهم لوط إلى الطهارة والامتناع عن إتيان الرجال في أدبارهم غير قولهم: «أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون» عما نفعله نحن من إتيان الذكران في أدبارهم.
وقد اقتفى بعض المسلمين اليوم أثر الفاسدين، وسار سيرتهم، وصاروا يذمون الصالحين، ويعاقبونهم لاستقامتهم وإيمانهم، والذي كان مسوغًا كافيًا لإعلاء أمرهم وتقديمهم والاقتداء بهم، وربما فاقوا أهل الفساد في فسادهم وشرودهم وعتوهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»، وفي هذا أوضح الدلالة على شدة المتابعة والموافقة.
فإذا لم يستطع المرء اللحاق بأهل الخير والصلاح والإيمان؛ لضعف إيمانه أو لفساد إرادته، فلا ينبغي أن يصل منه أذًى لهم، وإلا شابه المشركين وأهل الكتاب في أفعالهم وتصرفاتهم، نسأل الله من فضله السلامة والعفو العافية.
مجلة البيان