logo

استراتيجية تناول الخطيب لمآسي المسلمين


بتاريخ : الأحد ، 20 شوّال ، 1440 الموافق 23 يونيو 2019
بقلم : أ. محمود الفقي، عضو الفريق العلمي
استراتيجية تناول الخطيب لمآسي المسلمين

في كل شبر من أرض المسلمين اليوم مأساة، وفي كل ساعة من ليل أو نهار تستجد للأمة المسلمة جراحات وعذابات، تقطِّع الأكباد، وتمزِّق نياط القلوب، وتستدر الدموع من العيون.

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد       تجده كالطير مقصوصًا جناحاه

وإن الناظر إلى مآسي المسلمين، في شتى دول العالم، يدرك أنها على أحد أحوال وأشكال خمسة:

(1) دول ترزح تحت نيران الاحتلال: وأبرز نموذج لها فلسطين، فك الله أسرها، وكذا الأحواز.

(2) دول تتمزق بالحروب أو بالفتن؛ كالسودان وسوريا واليمن وليبيا...

(3) دول كيانها قائم لكن تفرض عليها العلمانية؛ كتونس ومصر...

(4) دول مقيمة لشريعة الإسلام بدأت تُستهدف بالفتن والاضطرابات؛ كالسعودية.

(5) أقليات إسلامية ضائعة أو مضطهدة: فضائعة ككثير من المسلمين الذين انخرطوا في الدول الأوربية والأمريكية وذابوا فيها، حتى لم يبق من إسلامهم إلا أسماؤهم، وأقليات أخرى مضطهدة يراد استئصالها؛ كما في بورما وغيرها.

والملاحظ أن عددًا من خطبائنا اليوم قد دأبوا على تناول تلك المآسي، بمختلف أشكالها، تناولًا خاطئًا؛ محبِّطًا ومقنِّطًا ومُيئِّسًا تارة! وحائرًا متذبذبًا متخبطًا تارة! ونادبًا متباكيًا متحزِّنًا تارة! ومتشائمًا مكتئبًا معسِّرًا تارة! ومغرقًا في التفاؤل والتغافل عن مآسي المسلمين تارة فكأنه لا يراها.

وإننا نحاول أن نقدم، في السطور القليلة التالية، الاستراتيجية الخطابية التي نراها مناسبة وناجحة في تناول مثل هذه المآسي، والتي هي الطريقة الأحرى والأنفع والأولى بالخطيب أن يتبعها في التعامل مع جراحات المسلمين، وتتضح أركان هذه الاستراتيجية من خلال المعالم الثمانية الآتية:

المَعْلَم الأول: ترك البكائيات:

قد يبكي الإنسان إذا مسه ضر أو نزلت به مصيبة، لكنها ساعة، ثم يقوم للأخذ بالأسباب، ومحاولة إزالة ما نزل أو إزاحته أو التخفيف منه، هذا هو الطبيعي، أما أن يظل باكيًا متباكيًا عمره، فهذا هو عين العجز ورأسه.

وللأسف، فمن خطبائنا من يصنع ذلك؛ تقع للمسلمين النكبة، فيقوم على منبره يبكي ويرثي لها، وهذا حسن؛ فهو يهتم لأمر إخوانه، لكن ما ليس بالحسن هو أنه يكتفي بهذا ولا يزيد عليه، حتى إذا وقعت للمسلمين نكبة أخرى، قام فبكاها، ثم سكت، ثم إن كانت ثالثة قام فبكى ثم اكتفى...، لا يبارح مكانه، ولا يصنع إلا البكاء!

بكت عيني وحق لها بكاها       وما يغني البكاء ولا العويل

والسؤال: لماذا لا تعتبر (البكائيات) هي الاستراتيجية المناسبة التي نتناول بها مآسي المسلمين؟

الجواب: بسبب ما تحدثه من (آثار جانبية) ضارة وخطيرة، منها:

(1) تيئيس الأمة: فإن كانت كل يوم تحدث للمسلمين الفواجع والكوارث، وإن كنا لا نملك حيالها إلا البكاء، كما يوحي بذلك أسلوب الخطيب، فسيستقر في أذهان المخاطبين أن الخَطْب قد فاق قدرة المصلحين، وأن الخرق قد اتسع على الراقعين، وأنه لا أمل ولا حيلة إلا الندب والعويل؛ حيث لم يدلّهم الخطيب على سواهما!

(2) الهزيمة النفسية: فبعد مدة من التباكي على المآسي يفكر السامع في حال نفسه، وأنه لا حيلة له حيال ما يجري، وأن الأحداث أعظم منه، فيبدأ ينهزم نفسيًا من داخله، خاصة عند تضخيم الخطيب لقدرات العدو، ويعتقد ألا حول له ولا قوة، فيحس بالضعة والذلة والحقارة، ثم تكون الفاجعة الثالثة.

(3) تملق العدو: فإن كان العدو يمتلك من القوة أشدها، وإن كان المسلمون لا يستطيعون مجابهته، فلا يبقى إلا طريقين، الأول: الانتظار حتى يأتينا العدو، الذي لا طاقة لنا به، فيسحقنا سحقًا، والثاني: أن ننضوي تحت لوائه ونحتمي بحماه، فنأمن شره!

وتلك الثلاثة مجتمعة، للأسف، قد أصابت الكثيرين من أبناء أمتنا، الذين يتملقون الشرق والغرب، ويسعون في رضاهم! ولا أشك أن لخطباء البكائيات يد ودور خطير في تلك النتيجة البشعة، ولهذا فإننا الآن نقول للخطيب:

كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء ولا العويل

وانهض ولا تَشْك الزمان فما شكا إلا الكسول

ما ضل ذو أمل سعى يومًا وحكمته الدليل(1).

المَعْلَم الثاني: التبصيريات:

نعم، على الخطيب أن يبصِّر سامعيه بما يفتح عيونهم على طبيعة الصراع الأزلي بين الكفر والإيمان، وعلى فصول ومراحل ذلك الصراع، وعلى حقائق الأمور وبواطنها، ومن تلك الأمور التي يجب تبصير الناس بها:

أولًا: ليس غريبًا أن نُعادى، الغريب أن نستكين: ففي كل زمان ومكان كان للمسلمين أعداء يتمنون استئصال شأفتهم، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، لكنهم لم ينالوا بغيتهم لتمسك المسلمين بدينهم ويقظتهم، وإدراكهم لمخططات عدوهم، والعمل على إحباطها، ولكن الغريب والعجيب أن يقع المسلمون في عشق عدوهم والاقتداء به وطاعته! هذه هي مصيبتنا اليوم.

ثانيًا: التبصير بأسباب السقوط: والتي ما تحققت إلا كان الانهيار والتردي والضياع والخيبة والخسران، ومنها:

(1) عدم تحكيم شرع الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم»(2).

(2) حياة الترف والمجون: فهي مقدمة الهلاك؛ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].

(3) التفرق والتشرذم: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].

(4) المعاصي والذنوب: فما نزل بلاء إلا بذنب: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ...} [العنكبوت:40].

ثالثًا: التبصير بطريق النهوض: وسبل العودة إلى حياة العزة، ومنها:

(1) الدخول في السلم كافة، وأخذ الدين بقوة وعزم.

(2) توحيد مصدر التلقي والاستدلال، حتى يكون الكتاب والسنة، وما انبثق عنهما، لا سواهما.

(3) تربية المجتمع على صحيح الدين، البريء من التحريف والتبديل والابتداع.

(4) الطاعة ونبذ العصيان: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].

(5) سيادة العدل: فلقد قيل: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»(3).

(6) الأخذ بأسباب السيادة، العلمية والمادية:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم       لم يُبْن مُلْك على جهل وإقلال

وسنتعرض، إن شاء الله، للمزيد من هذه المقومات عند الحديث عن إحياء تجربة الأمة الإسلامية الأولى، في المعلم السابع.

رابعًا: التخطيط من الدين، وليس عدوًا للإيمان: فمن جملة المفاهيم المغلوطة، التي تسببت في التخلف الفكري للمسلمين، أن التخطيط وحمل هَمّ الغد والتدبير له من نقص الإيمان ونقص التفويض والتوكل على الله! حتى لقد قال شاعرهم:

لا تدبر لك أمرًا فأولو التدبير هلكى       سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكَ(4).

والأمر على خلاف ذلك، فهذا نبي الله يوسف يضع خطة مستقبلية لأعوام عديدة آتية عند تأويله لرؤيا الملك، ووضع خطة أخرى للاحتفاظ بأخيه معه لما وَضَع الصواع في متاعه.

وهذا نبي الله سليمان يضع خطة لإقناع ملكة سبأ بالإسلام، تتمثل في إظهار قدرته بجلب عرشها قبل مجيئها.

والخطط التي وضعها نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وفي غزوة الخندق وغيرهما أشهر من أن توضح.

بل لقد وضع لنا رب العزة سبحانه وتعالى خطة لأداء الصلاة عند الخوف، ووضع تعالى خطة لأم موسى لتنقذ ولدها من جنود فرعون؛ بل ليُربى داخل بيت فرعون نفسه، وترضعه أمه، وتأخذ على إرضاعه أجرًا.

إلى غير ذلك من التبصيريات، التي يجب على الخطيب، الذي يبتغي إرجاع مجد أمته، أن يزود بها سامعيه.

المَعْلَم الثالث: إلباس المآسي ثوب التاريخ:

بمعنى: فهْم ما يحدث للمسلمين اليوم في ضوء أحداث التاريخ، وعدم قطعه عن السياق التاريخي، وإدراك أن الحالة الراهنة ما هي إلا حلقة من حلقاته، وليست نهاية المطاف، وأنها مجرد غمة ومحنة ونتيجة طبيعية لبعدنا عن ديننا، توشك أن تنقشع وتنفرج إن عدنا إليه، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

والدلائل من التاريخ على ذلك كثيرة:

- فقد اغتصبت القدس من أيدي المسلمين لما غفلوا وخلدوا إلى الدنيا، وأبيد من كان فيها من الموحدين، وظلت (112) عامًا مغتصبة، من سنة 471هـ إلى 583هـ، حتى فتحها صلاح الدين الأيوبي.

- ودخل القرامطة مكة، وقتلوا سبعين ألف مسلم داخل الحرم، وردموا بئر زمزم بالقتلى، وانقطع طريق الحج، واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، وظل أكثر من عشرين سنة منتزعًا منها، من سنة 319هـ إلى 339هـ(5)، ثم هي عادت شريفة معظمة.

- وأقام العبيديون (الفاطميون) الشيعةُ الجامع الأزهر (361هـ) لتدريس ونشر التشيع، وظل كذلك حقبًا من التاريخ، إلى أن أذِن الله تعالى، بعد أكثر من (280) سنة، فصار الأزهر منارة لنشر مذهب أهل السنة والجماعة.

وبهذه الطريقة يدرك السامعون أن الأيام دول، وأن مآسي اليوم ما هي إلا إرهاصات لتمكين الغد، وأن الله غالب على أمره.

المَعْلَم الرابع: بعث الأمل:

أيها الخطيب، لن يبدأ سامعوك في العمل إلا إذا أعطيتهم الأمل، وأنت إذ تعطيهم الأمل لن تتعنى ولن تتكلف ولن تبتدع جديدًا؛ فإن ديننا كله أمل، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك المواقف وأشد الظروف يبث الأمل فيمن حوله؛ فعن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي، هل رأيت الحيرة؟»، قلت: «لم أرها، وقد أُنبِئت عنها»، قال: «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله»، قلت فيما بيني وبين نفسي: «فأين دُعَّارُ طَيِّئٍ الذين قد سَعَّروا البلاد»، «ولئن طالت بك حياة لَتُفْتَحَنَّ كنوز كسرى»، قلت: «كسرى بن هرمز؟!»، قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يُخْرِجُ مِلء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه...».

قال عدي: «فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يخرج ملء كفه»(6).

فلا بد، أيها الخطيب، من بث الأمل في النفوس؛ حتى تُقبل على العمل وكلها ثقة في نصر الله وفي عونه سبحانه وتعالى، أمل وثقة في أن الأمة منتصرة مهما كثرت عليها المآسي وأثخنتها الجراحات، وأن الفجر آت لا محالة مهما طال ظلام الليل.

أمل كأمل الملك نور الدين محمود بن زنكي، الذي صنع منبرًا للمسجد الأقصى وهو ما زال مغتصبًا! وما وضعه فيه إلا صلاح الدين الأيوبي بعد عشرين سنة من صنعه(7).

أمل كأمل يعقوب عليه السلام وقد فقدَ ولديه وابيضت عيناه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ...} [يوسف:87].

بل أمل كأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال له ملك الجبال: «إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، فأجابه بكلام ملؤه الأمل: «بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»(8).

فليعلن الخطيب، في ثقة، أن المستقبل للإسلام وأهله، تمامًا كما صنع قدوة الخطباء صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»(9)، و«لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل»(10).

المعلم الخامس: استنهاض الهمم للتغيير:

وإشعار الأمة بضرورة وحتمية التغيير، لكن ماذا على الخطيب أن يُغيِّر؟

أولًا: تغيير ما بالنفوس من العصيان إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن السذاجة إلى الوعي، ومن الفوضوية إلى التنظيم، ومن الارتجالية إلى التخطيط...، وما ذلك كله إلا ليغيِّر الله تعالى من حالنا، الذي نحياه، إلى حال العزة والمجد والكرامة والتقدم والرقي: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

ثانيًا: تغيير تكاسل المجتمع المسلم وقعوده إلى العمل والهمة والنشاط والجد والاجتهاد.

ثالثًا: تغيير الانشغال بالمال والولد إلى الانشغال بهموم الأمة والارتقاء بها.

فعلى الخطيب أن يشعل نار الحماسة والهمة ويوقدها في الصدور إلى العمل للدين، والتفاني في نصرته، حماسة كالتي كانت في صدر أبي طلحة رضي الله عنه؛ فإنه لما قرأ قول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41] قال: «استنفرنا الله وأمرنا الله، واستنفرنا شيوخًا وشبابًا، جهزوني»، فقال بنوه: «يرحمك الله، إنك قد غزوت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن»، فغزا البحر فمات، فطلبوا جزيرة يدفنونه فيها، فلم يقدروا عليه إلا بعد سبعة أيام وما تغير(11).

وكحماسة ورقة بن نوفل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا»(12).

المَعْلَم السادس: بث عوامل الوحدة وروح التناصر:

لقد كان الشاعر حصيفًا واعيًا مدركًا من أين أُصيبت الأمة حين قال:

كاد الأعادي لنا يوم اللقاء ولو       أنا وقفنا لهم صفًا لما كادوا

إني أكاد أن أعتد وحدتنا دينًا       وأن افتراق الشمل إلحاد

فما تمكن أعداؤنا منا إلا حين تقطعنا وتشرذمنا وتنازعنا فذهبت ريحنا، وما احتلوا بلادنا واستقروا بها إلا عندما تركنا تناصرنا بأُخُوَّة الإسلام، ولطالما كان شعارهم: «فَرِّق تَسُد».

ونسى المسلمون أو تناسوا حقيقة مهمة تقول: «المسلمون كرجل واحد؛ إن اشتكى عَيْنُهُ اشتكى كُلُّهُ، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كله»(13).

بل عصوا الأمر القرآني القائل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72].

وربما غفلوا عن أن «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه»(14)، «والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»(15)، و«المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم»(16).

فعلى الخطيب أن يعيد إلى المسلمين لُحمتهم وتوحدهم وأخوتهم وتناصرهم، حتى ينشد صائحهم قائلًا:

يا أخي في الهند أو في المغرب       أنا منك، أنت مني، أنت بي

لا تسل عن عنصري عن وطني       إنـــــــــه الإســــــــلام أمـي وأبــــــي

أخوة نحن به مشتركون.

المعلم السابع: إبراز تجربة الأمة الأولى، ومحاولة تَكرارها:

نُقل عن الإمام مالك أنه قال: «لم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها»(17)، وقال: «ولا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أَصلَح أولها»(18)، وقد أيد الشرع والعقل والواقع صدق كلامه.

فواجب خطبائنا أن يعملوا على إعادة تلك التجربة الأولى الرائدة، التي نجحت نجاحًا مبهرًا منقطع النظير في النهوض بالأمة؛ بل بالبشرية جمعاء، وذلك من خلال حصر مقومات تلك التجربة، ومحاولة إنشائها من جديد.

ومن مقومات نجاح تجربة الأجيال الأولى الفاضلة:

أولًا: إعلاء العقيدة: وجعلها الركيزة الأولى في الولاء والبراء، ومن المشهور مقاتلة الصحابة لأقربائهم وقتلهم، وتبرؤ إبراهيم عليه السلام من أبيه وقومه شاهد على ذلك.

ثانيًا: جعل الدين رأس الأولويات: فما كان في حياتهم شيء أهم من الدين ومن العمل له.

ثالثًا: المساواة التامة بين البشر: وعدم التفضيل إلا على أساس التقوى، «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى»(19)، وذلك ينفي عن كل مسلم المهانة أو الحقارة، فيشعر بمكانته وقيمته واحترام الجميع له فيعمل ويكد.

رابعًا: تقديم الكفاءات لا القرابات: فإن قُدِم الكفء نهضت الأمة، والعكس من علامات الساعة: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»(20).

خامسًا: اكتشاف المواهب والطاقات واستثمارها: كما علمنا سيد الأمة صلى الله عليه وسلم، الذي تلمَّس المواهب واستثمرها، فلما قال صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(21)، فرأيناه صلى الله عليه وسلم قد استعمل كلًا منهم في المكان الذي يناسب مواهبه وإمكاناته، أو استعملهم الخلفاء الراشدون من بعده.

سادسًا: فتح باب الاجتهاد المنضبط: لمواكبة المستجدات والمتغيرات والحوادث والقضايا التي لم تكن موجودة في العصور الأولى، وهذا، أيضًا، من مقومات نهضة الجيل الأول، فاجتهادات الخلفاء ومن بعدهم مشهورة معروفة.

سابعًا: توفير مناخ النهضة: من حرية وعدالة وتكافؤ...، وهو ما يهيئ الفرد ليعطي خير ما عنده.

فهذا هو الأسلوب العملي؛ أن نحاول إعادة مجدنا وعزنا، لا كما يفعل بعض الخطباء فيحيا في الماضي وذكرياته وأمجاده وأطيافه دون إحداث خطوة عملية لإعادتها.

المعلم الثامن: تقمص الروح الجهادية، ثم بثها في الناس:

نعم، الخطيب من أصناف المجاهدين، فهو يجاهد بلسانه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه، ولسانه»(22).

وخاب من اتخذ من الخطابة مجرد مهنة ووظيفة يتكسب منها، ولم يتخذها ساحة معركة يجاهد فيها بكلماته.

فإن أخلصت نيتك وجعلت من الخطابة جهادًا فأبشر فإن الله عز وجل سيدلك ويوفقك ويرشدك ويهديك؛ فقد وعد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، قال البيضاوي: «وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه»(23).

فإذا صرت من المجاهدين، وخضت غمار الدعوة إلى الله تعالى بروح المقاتل، فاعمل على نقل هذه الروح إلى سامعيك ورواد مسجدك؛ فإنه لن تحدث صحوة، ولن تقوم للمسلمين قومة، ولن نستطيع تعويض ما فاتنا وسبق من فاقنا إلا بهذه الروح، وهي نفس الروح التي عاش عليها الصحابة حتى صاروا رواد الدنيا، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

ومن الآن، أيها الخطيب، لتكن بلسمًا يداوي جراحات الأمة، ويخفف من وقع مآسيها، ولتكن مبضعًا يستأصل ما أصابها من أورام خبيثة سببت عجزها، ولتكن مشعلًا يضيء لها ما أظلم من مفاهيمها وأفكارها، ولتكن منارة تهدي الحيارى والضُلال من أبناء الأمة إلى الطريق الصحيح للريادة والقيادة.

أيها الخطيب، لتكن رائد صحوة، وقائد أمة، ومفجِّر همة، وزارع عزيمة.

وأنت، بعون الله، قادر على ذلك.

______

(1) انظر: فن التحرير العربي، لمحمد الشنطي (298)، دار الأندلس للنشر والتوزيع، السعودية، الطبعة الخامسة، 1422هـ.

(2) رواه ابن ماجه (4019)، والطبراني في مسند الشاميين (1558)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).

(3) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/ 146)، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، السعودية، عام النشر: 1416هـ.

(4) قد يُحمل هذا البيت على معنى مقبول، وقد استشهد به بعض علمائنا الأفاضل، ولكن كثيرًا من الناس يحملونه على معنى مغلوط؛ أن التخطيط للمستقبل ينافي التوكل، وأن الحل هو التواكل وترك الأخذ بالأسباب، ويروى في ذلك العجائب؛ كمن اقتحم الصحراء بلا راحلة ولا رفيق ولا زاد يبلغه بزعم ترك التدبير وتمام التوكل على الله!

(5) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير (11/ 182 و236)، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1408هـ، وتاريخ الإسلام، للذهبي (23/ 381)، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1413هـ.

(6) رواه البخاري (3595).

(7) انظر: تاريخ ابن خلدون (5/ 362)، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ.

(8) رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795).

(9) رواه مسلم (2889).

(10) رواه أحمد (23814)، وابن حبان، واللفظ له (6699)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3).

(11) رواه ابن حبان (7184)، والحاكم (5508)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (7140).

(12) رواه البخاري (3)، ومسلم (160).

(13) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586).

(14) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

(15) رواه البخاري في الأدب (239)، وأبو داود (4918)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (926).

(16) رواه ابن ماجه عن ابن عباس (2683)، والنسائي عن علي (4734)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2208).

(17) البيان والتحصيل، لابن رشد القرطبي (1/ 242)، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ.

(18) المدخل، لابن الحاج (1/ 262)، دار التراث.

(19) رواه أحمد (23489)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (7300)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700).

(20) رواه البخاري (59).

(21) رواه ابن ماجه (154)، والترمذي (3790)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1224).

(22) رواه أحمد (15785)، وابن حبان (4707)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1631).

(23) تفسير البيضاوي (4/ 200)، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ.

المصدر: موقع ملتقى الخطباء