logo

المصطلحات وأثرها على الفكر الإسلامي


بتاريخ : الخميس ، 24 شوّال ، 1440 الموافق 27 يونيو 2019
بقلم : د. محمد العبدة
المصطلحات وأثرها على الفكر الإسلامي

لا شك أن الخطوة الأولى في مسيرة الفكر السليم هي العناية باللغة تحديدًا وفهمًا وسياقًا؛ حتى يقوم البحث أو الحوار والتفاهم على أسس علمية واضحة جليّة، وحتى لا تنقلب الأمور إلى أضدادها ويستغلها صاحب الهوى «فإن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر وكلاهما قبيح»(1)؛ ذلك لأن الألفاظ المبهمة الغامضة تربك الذهن وتشوش الفكر، وأن من البلاغة أن تبين عن قصدك بالشكل الذي يجعل القارئ أو السامع يتفهم ما تريد.

ولأهمية الكلمة ووضوحها يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «قد تكون الكلمة واضحة حين تجري في سياقها، لكنك إذا عزلتها وحدها ووضعتها في مخبار التحليل ألفيتها تقاوم وتراوغ، فكأنما اللفظة من هذه الألفاظ كائنٌ حي بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، تنصاع لفهمك إذا جعلتها جزءًا من عبارة، وكأنها وسيلة تتعاون مع غيرها على أداء معنى»(2).

أدان القرآن الكريم محاولات أناس يلجئون إلى الخداع اللفظي، أو تعمد الغموض واللبس ليتسنى لهؤلاء تفسير اللفظة حسب أهوائهم وحسب الأوجه التي تناسبهم، قال تعالى مخاطبًا بني إسرائيل وأن من صفاتهم هذا الخداع والخلط: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، وقال عنهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46].

وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين ألا يستعملوا كلمات فيها خلط وفيها باطل؛ مثل: كلمة (راعنا)، وأن يقولوا عوضًا عنها: (انظرنا)؛ ذلك لأن اليهود كانوا يستعملون كلمة (راعنا) بطريقة ملتوية خبيثة، يقصدون بها قصدًا سيئًا في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].

نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين؛ ليكون ذلك حماية من التحريفات أو التأويلات الباطلة، فقدرة اللغة العربية على تحديد المعاني بطريقة واضحة جازمة قدرة فائقة {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، قال الشيخ ابن عاشور: «لأن أهل تلك اللغة أفهم لدقائقها، واصطفى رسوله من أهل تلك اللغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم، فيكونوا المبلغين مراد الله إلى الأمم»(3).

وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:67]، «والتبيين هو تجلية المعاني الخفية لغموض أو سوء تأويل»(4)، وقد وصف القرآن الكريم أشرف خلقه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعبودية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}؛ وذلك حتى لا يكون هناك أي التباس أو أوهام من بنوّة أو أبوّة كما وقع للنصارى في عيسى عليه السلام.

ومن الملاحظ أن كثيرًا من التفرق والتحزّب، الذي وقع في الأمة، هو ناشئ عن سوء التعامل مع الألفاظ والمصطلحات؛ ولهذا منع العلماء من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، فعندما شاع مذهب (الجبرية) أنكر العلماء هذا المصطلح وقالوا: لا يجبر الإنسان على شيء ثم يُحاسب عليه، ولكن قد (يُجبل) على خُلُقٍ معين، كما في حديث وفد عبد القيس؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرئيس الوفد: «فيك خصلتان يحبهما الله»، فقال له: «هل جُبلت عليهما؟»، قال: «نعم».

ولأنه قد تطلق الألفاظ وهي تحمل حقًا وباطلًا، فإذا نُفيت فهذا يعني نفي ما فيها من الحق، وإذا أُثبتت فهذا إثبات ما فيها من الباطل؛ ولذلك لا بد من تحريرها، ما المقصود منها، وماذا تعني؛ ذلك لأن لكل أمة أوضاعًا ومصطلحات في لغتها، ولمّا كانت اللغة اليونانية (قديمًا) أو اللغة الانكليزية اليوم مختلفة عن اللغة العربية وجب ترجمة معاني مفرداتهم؛ لمعرفة ماذا يقصدون بهذه المفردة في ثقافتهم؟ وكيف نشأت؟ ولماذا؟ «فإنه عندما يفهم المرء المعنى الدقيق لكلمةٍ ما فإنه يفهم، في غالب الأحيان، كذلك الإشكالات التي تكون لها علاقة بهذه الكلمة»(5).

يقول الدكتور زكي نجيب محمود: «قل أي جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك، مما تقتضيه ثقافة تلك اللغة الأخرى»(6).

وإذا كان العلماء والمفسرون قد كفونا مئونة شرح وتحديد بعض المصطلحات المهمة القرآنية؛ مثل: الجاهلية، الأمة، الحكم، الهجرة، الجهاد، فإن عصر الترجمة في العصر العباسي الأول أدخل عبارات ومصطلحات هي نتاج ثقافة أخرى ولغة أخرى، ومن الأمثلة البارزة في ذلك أن لفظ (العقل) عند اليونانيين القدماء، والذين تُرجمت كتبهم، هو مغاير لمعناه في القرآن الكريم؛ فإنهم يعنون بالعقل جوهرًا قائمًا بنفسه، ولكنه في المصطلح القرآني هو إجراء ذهني يساعد على السيطرة والضبط والتحديد، وهو عملية رُشد وتمييز بين الهدى والضلال؛ ولذلك ورد في ذكره في القرآن بصيغة الفعل (تعقلون)؛ أي الممارسة لعملية تفكير ومقارنة، والعقل عند بعض الفلاسفة اليونانيين.

وحسب نظرية (الفيض) عند أفلوطين (وليس أفلاطون) تعني التدرج من المصدر الأول (الإلهي) نزولًا إلى العقل الإنساني، وهي عشرة عقول، ولها تعلق بالأجرام السماوية، وهذه النظرية أخذها (الفارابي) عن أفلوطين، وهو تصور محض خرافة، وجهل بالله ومخلوقات الله، وإن نبوغ اليونانيين في الرياضيات أو الطب أو علم الفلك لا يعني أنهم كذلك في الإلهيات(7)؛ بل هم أجهل الناس بالإلهيات التي يجب أن تُتلقى عن الأنبياء.

والحقيقة أن الفلسفة التي تسمى (إسلامية) استجلبت نظامًا كاملًا من المفاهيم الأجنبية لا شأن لها أصلًا باللغة العربية أو برؤية الإسلام للعالم، ولما أراد هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الدين والفلسفة وإيجاد مصطلحات مناسبة، مع أن المفاهيم أجنبية، حدث التناقض والتشوش؛ لأنه من الصعب إيجاد مقابل تام في اللغة العربية لمصطلح يوناني، وقد اشتكى الخطيب الروماني الشهير (شيشرون) من صعوبة التعبير باللاتينية عن المفاهيم الإغريقية.

ومن الآثار السلبية لنقل المصطلحات دون تتبع مصدرها وسبب نشأتها، ما وقع للمسلمين حين خاضوا فيما سُمّي (علم الكلام)(8)، وبدءوا في البحث حول (الذات) الإلهية والصفات، فإنهم تمثّلوا الطريقة الإغريقية التي تفسر الوجود كله في إطار (الجواهر والأعراض) وهذا يعني أنّ العالم تعتريه حالات من وجودٍ وعدم، وسكون بعد حركة، وظلمة ونور، وتحول من حال إلى حال، وهذه أعراض حلَّت بجواهر هذا العالم، والأعراض حادثة، وما حلَّت به الأعراض فهو حادث مثلها، إذن الكون حادث ولا بد من له من مُحدث، وهو الخالق سبحانه وتعالى.

ولكن هذه الطريقة لإثبات وجود الخالق ألجأتهم إلى نفي صفات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأعراض صفات، وهي تعرض وتزول، ولكن صفات الله باقية، وبعضهم نفى بعض الصفات دون بعض، وهكذا تورطوا في مسألة خطيرة لأنهم لم يتبعوا منهج الرسل، كما قال ابن تيمية رحمه الله.

 والمنهج القرآني يقول لهم: إنّ وجود الله سبحانه مركوز في الفطرة، فلماذا كل هذا التعب {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إنها دعوة للتأمل في الخلق، في الآفاق والأنفس وليس البحث في (الذات).

فإذا انتقلنا إلى العصر الحديث فسوف نجد أنّ المشكلة تتكرر، وربما بشكل أوسع ودون أن ننتبه إلى ما تلقي الكلمة المستوردة من ظلال، وما هي المفاهيم الكامنة وراءها، وأنّ لها معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا، ثم زدنا على ذلك فقمنا بترجمة المصطلحات ترجمة حرفية، فمصطلح (الأصولية)، الذي شاع أخيرًا في الصحافة والإعلام وعند بعض الكُتّاب، والذي هو ترجمة حرفية لكلمة Fundamentalism، التي تشير في المعجم الغربي، بالدرجة الأولى، إلى التفسيرات (الحرفية) البروتستانتية للعهد القديم والعهد الجديد، فالأصولية والحرفية مترادفتان.

أما في السياق العربي الإسلامي فالأمر مختلف جدًا، فالحرفية تعني عدم إعمال العقل أو الاجتهاد، وهذا النمط غير معروف في الفكر الإسلامي، ويقال في التراث الإسلامي (أصولي) ويعنون بذلك المتمكن من علم أصول الفقه، فالأصول عندنا هو إطار لعملية اجتهاد مستمر.

إنّ مصطلح (Religion)؛ أي: الدين، عند أهل الغرب، يعني التوجه الروحي للأفراد؛ أي أن الدين لا يتدخل في حياة الإنسان الدنيوية؛ السياسية والاقتصادية والحياة الاجتماعية، ويقال أن هذا المصطلح مأخوذ من كلمة (Relation) التي تعني العلاقة.

والدين عند المسلمين إنما هو شامل لكل شئون الحياة، وقد عَرَّفه العلماء بأنه «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير باطنًا وظاهرًا»، فالمراد من الدين هو حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.

ولذلك أطلق الغربيون، عن عمد أو عن جهل، مصطلح (الإسلام السياسي)، وتلقفه المقلدون عندنا، وهو مصطلح غير صحيح؛ لأن معناه أن هناك إسلامًا غير سياسي {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ}.

 إنّ كلمة (Faith) الإنكليزية، تترجم بمعنى الإيمان، ولكن لا يلاحظ الفرق الكبير بين مصطلح الإيمان القرآني وهذه الكلمة في الثقافة الغربية، التي تعني عندهم الاعتقاد بمسائل قد لا يكونون مقتنعين بها، أو تقف حجر عثرة أمام العقل، والإيمان بالمصطلح الإسلامي يشمل اعتقادات القلب وعمل الجوارح، وهو اليقين دون شك أو رَيب.

 كما تُترجم كلمة (nation) بمعنى (الأمة)، ولكنها عند أصحابها تعني شعبًا ضمن حدود جغرافية؛ أي هي قومية معينة، والأمة بالمصطلح الإسلامي قائمة على رباط عقدي سياسي، لا تزال تَجْمع المسلمين دون حواجز اللغة أو العرق أو اللون.

ونستخدم مصطلح (التقدم) دون أن نحدد مضمونه، هل هو إقامة العدل وتحقيق إنسانية الإنسان، أم هو الإنتاج المادي والاستهلاك والرفاهية؟ إن الغربي ينظر إلى الوراء، إلى القرون الوسطى وكيف كانت أوروبا، ثم ينظر إلى ما هو عليه الآن، من بداية النهضة ثم التقدم العلمي والصناعي، فإذا سمع مصطلحًا يوحي بالرجوع إلى العصور السابقة فإن هذا يفزعه؛ ولذلك كان مصطلح (التقدم) له سحر خاص لديه.

ولكن هذا لا ينطبق على كل شعوب الأرض، وإنه من غير المقبول أن يفرضوا تاريخهم على سائر البشرية، كما فعل (ماركس)؛ حيث رأى أن المجتمعات البشرية تطورت من شيوعية بدائية إلى عبودية وإقطاع، ثم الرأسمالية، ثم الاشتراكية العلمية (الشيوعية)، وهي نهاية المطاف، وهي الأمل والمثل الأعلى، وإن كان هذا التطور ينطبق على أوروبا مثلًا، فلا ينطبق على المجتمعات الأخرى أو على تاريخ البشرية.

يتقن الغرب تحريف الكلمات وإعطاءها مدلولًا يناسبه، كما ذكر القرآن عن بني إسرائيل، فالغرب يسمي استعمار الشعوب الأخرى (عصر الاكتشافات)، وكأنه اكتشف قارة ليس بها أحد (أرض بلا شعب)؛ ذلك لأنه يرى أنّ هذه الشعوب المستَعمرة لا تستحق الحياة، وهو يسمي المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط)؛ وذلك لإبعادها عن هويتها، فهي بنظره جزء جغرافي من الشرق، فهناك شرق أدنى، وشرق أوسط، وشرق أقصى.

فإذا أتينا إلى المصطلحات التي يدور حولها الحديث اليوم: الدولة المدنية، المواطَنة، الديمقراطية... الخ، فالأصل أن نعود إلى أصل المصطلح، وأين نشأ، وما هو مفهومه عند من أنشأه، فمصطلح (الدولة المدنية)، مثلًا، نشأ من خلال صراع أوروبا مع الكنيسة وتسلطها، وحين كان ملوك أوروبا يحكمون باسم الإله، وهو ما يُسمى بـ(النظام الثيوقراطي أو الدولة الدينية)، فالدولة المدنية باصطلاحهم هي مقابل الدولة الدينية، وليس عندنا في الإسلام شيء اسمه دولة دينية، ولكن عندنا دولة تحكمها الشريعة الإسلامية، ونظم منبثقة عن هذه الشريعة، ولا يحكمها طبقة اسمها (رجال الدين)، ففي الأصل ليس في الإسلام طبقة اسمها (رجال الدين).

ومفهوم (الثيوقراطية) بعيد جدًا عن شكل النظام الإسلامي، الذي له أسسه ونظرته الخاصة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فكيف نأتي بمصطلح نشأ في أوروبا نتيجة صراع الكنيسة مع رجال الحكم، فالدولة المدنية تعني (الدولة العلمانية)؛ حيث يُشرّع الإنسان ويضع القوانين التي تنظم حياته، ومصدر السلطة هو الشعب، وله حق التشريع، ولأن الشعب أعرف بأمور دنياه، كما ورد في برنامج بعض الأحزاب العربية (الوسطية)، ويقتصر الدين على ممارسة الشعائر التعبدية.

 والذين يقولون: نقصد بالدولة المدنية أنها ليست دولة عسكرية، فهذه مغالطة للخداع، فإن الغرب عندما أطلق هذا المصطلح لم يكن تحت حكم عسكري، ويريد إزاحته بدولة مدنية.

 والذين يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح إذا اتفقنا على المضمون الذي نريده لشكل الحكم، يقال لهم: لماذا لا نبتعد عن المصطلحات الغامضة التي لها جذور علمانية، ويكون لنا مصطلحاتنا البريئة من هذه العيوب.

 إن مصطلح (المواطنة) هو انتساب جغرافي، فهل يتعارض مع (الهوية)، والناس لا بد لهم من هوية هي نظام حياتهم وعلاقاتهم، وإذا كانت هوية الأكثرية هي الغالبة، وهي التي تدعم الاستقرار والأمن، والمخالفون في الهوية لهم حقوقهم وواجباتهم، وخاصة في الأشياء العامة المطلوبة من كل فرد، فإذا كان كذلك فهذا هو الشيء الطبيعي في الدول والحضارات، وهو الذي يساعد على التفاهم والتعايش.

وأما مصطلح (الديمقراطية)، والذي قامت حوله المعارك الكلامية، فهو ليس مصطلحًا وحسب؛ بل هو نظام معين، سواء من حيث الشكل أو المضمون، وقد تدرج وتأصل في الغرب في العصر الحديث، وله آلياته وثقافته، وهو حكم الأكثرية من خلال الانتخابات، ولو كانت أكثرية ضئيلة، وقد تقدم الغرب سياسيًا بسبب هذا النظام، رغم عيوبه ونقائصه التي يتكلم عنها كتّاب الغرب أنفسهم، فهل نقول: إنه هو نظام الشورى عندنا، أي نحرّف الكلمات، فهناك خلاف أساسي بين الديمقراطية والشورى، وليس هنا مجال التفصيل في هذا الموضوع، فهذا له بحث طويل عريض.

فالنظام الإسلامي يختلف عن كل الأوضاع البشرية الأخرى، فلا هو ديمقراطي ولا ثيوقراطي ولا أوليرشي (حكم الأقلية) ولا منوقراطي (قانوني حرفي)، فهل من المعقول أن ننقل نظامًا نشأ في الغرب، وتطور ضمن بيئة معينة وثقافة معينة، وأصبح ثقافة لعامة الشعب، هل ننقل هذا لبيئة معينة وثقافة مختلفة وفي دينهم أساسيات للحكم والسياسة مختلفة، هل ننقل مثل هذا النظام، بعجره وبجره، دون مراعاة للظروف وأسلوب الحياة، وهذا لا يعني القبول بالنظم الاستبدادية، كما لا يعني الانغلاق عن قبول أي شيء مفيد، ومن أي جهة كانت، ولكن يجب أن نعلم أن أسوأ السرقات هي سرقة الهوية؛ أي القبول بسذاجة تعريف الآخرين لما يجب أن نسير عليه.

وفي المقابل فإن هناك مصطلحات إسلامية ليس لها مرادف في اللغات الأجنبية، ولا يمكن أن تترجم حرفيًا، إذن سيضيع معناها ومغزاها، فهل يترجم مصطلح (العبودية) أو (عبدًا لله) بكلمة (slave) الإنكليزية، وهي تعني العبد المملوك؟، أم نترجمها إلى (servant of gad) وهي تعني الخادم لله؟، ولكن ليس هذا معنى العبودية في المصطلح القرآني، والتي تعني الخضوع مع المحبة؛ ولذلك وصف أشرف الخلق بصفة العبودية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...}.

ومصطلح شرعي مثل (الهجرة) هل نترجمه إلى الإنكليزية بكلمة (immigration)، التي تعني الانتقال من مكان إلى مكان، وهي بعيدة جدًا عن مصطلح الهجرة التي تعني الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو من بلد لا يسمح للمسلم بإقامة شعائر دينه إلى بلد يسمح بذلك.

وقل مثل ذلك في مصطلح (الجهاد)؛ فليس هو كما يترجم بـ (Holy war)، التي تعني الحرب المقدسة، فالجهاد هو تحديدًا يجب أن يكون في سبيل الله، وهو مصطلح شرعي له مفهومه الخاص وآدابه وشروطه، وعندما يترجم بـ(الحرب المقدسة) يفقد معناه وروحه، وهكذا في ترجمة الهجرة أو العبودية، فإن لم يترجم المصطلح حسب ما عُرف في لغته الأصلية، وما تأسس له من معنى، كمصطلح قرآني في منهجية الإسلام العقائدية، فإنه سيفقد ما وُضِع له، ويعطي صورة مشوهة أو غير دقيقة للغير.

وقاعدة العلاج للخلل الغربي في نقل المصطلحات من لغة إلى أخرى «هي أن يُدرس المصطلح الغربي، الذي يشير إلى ظاهرة ما من خلال سياقه الأصلي، دراسة جيدة، نعرف مدلولاته معرفة جيدة، ونحاول توليد مصطلح من داخل المعجم العربي بحيث لا يكون ترجمة حرفية، وإنما تسمية للظاهرة من وجهة نظرنا، وقد أدمنّا عملية نقل المصطلحات دون إعمال فكر أو اجتهاد، ودون إدراك للمفاهيم المتحيزة الكامنة»(9).

إن تقريب مصطلحاتنا إلى المفاهيم الغربية يعقّد مشكلة النهضة والإصلاح التي نسعى إليها، ويوقعنا في حالة الاستتباع والانبهار، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- البشير الإبراهيمي، الآثار الكاملة (3/ 18).

2- ثقافتنا في مواجهة العصر، ص192.

3- التحرير والتنوير (10/ 161).

4- المصدر السابق، تفسير سورة الزخرف.

5- أريك فروم، حب الحياة، نصوص مختارة، ص81.

6- في حياتنا العقلية، ص132.

7- كمن يظن أن تقدم الغرب في العلوم المادية يجعله الحَكم في العلوم التي تحل مشاكل الإنسان.

8- يعرفه ابن تيمية: هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين، ويعرفه ابن خلدون: هو علم يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية.

9- عبد الوهاب المسيري، حوارات (1/ 350).

موقع: المسلم