logo

إدارة المهام الفكرية عبر المكاتب الزجاجية


بتاريخ : الخميس ، 8 ذو الحجة ، 1435 الموافق 02 أكتوبر 2014
بقلم : م. محمد صالح البدراني
إدارة المهام الفكرية عبر المكاتب الزجاجية

جميعنا، وخصوصًا من له اهتمامات ومهام أو مهارات متعددة, يحتاج إلى مهارة رائدة لتوزيع الوقت ووضع الأولوية في التنفيذ بشكل آني.

 

لقد اعتدنا على فهم الأولويات أنها ترتيب المهام وفق أهميتها, ومن ثم الانشغال بها لحين إتمامها, ثم الانتقال لمهمة أخرى تليها في الدرجة، لكن الإنسان اليوم لا يتعامل مع المهام الاختصاصية أو من نوع واحد، فهنالك مهام في عمله توضع وفق الأولويات، وأيضًا هنالك مهام فكرية، وقراءة وتأليف, ومهام عائلية؛ كدعم الأبناء في تعليمهم، أو شراء الحاجات المنزلية، أو سد أمور كثيرة تتباين وتتنوع في كل مجال من المجالات التي ذكرناها, وهنالك انشغالات الواقع السياسي والأمني في مفاصل الحياة العامة والخاصة.

كل هذه لها تفاصيل وأولويات، لكن هذه في حياة اليوم كأنشطة تأخذ مقامًا واحدًا؛ لأن من يتعامل بفتات الوقت مع هذه الاهتمامات ليس موضوع بحثنا هنا, وإنما الزخم يكون مع العاملين في مجالات النهضة والتنمية, يحملون مهام أمتهم، وهم في الغالب متطوعون, رغم أنهم يقومون بعمل آخر يعيشون من وارده باحتراف.

سيشعر الإنسان أنه غير مسيطر إن وضع هذه الأنشطة ضمن أولويات بالطريقة التقليدية المعروفة، فذلك النظام هو لنشاط واحد مكتبي أو حقلي، أما هذه فهي أنشطة تحتوي تفاصيل، وهذه التفاصيل هي من تحتاج إلى ترتيب في سلم الأولويات, فيبدو مقصرًا دائم الاعتذار، أنه يبذل جهده لكنه يقصر, ويشعر أنه ليس مؤهلًا لكل هذا العمل, فإما أنه يوكله لآخرين، أو يتابعه كما المتفرج لا ينجز شيئًا كاملًا أو متكاملًا.

كل هذه الأمور تعمل مرة واحدة في ذهنه، دون أن يشعر بالراحة أو المتعة في عملها، فتسقط من يده وربما يعود للفراغ.

كيف يتولد الاهتمام أصلًا:

استشعار نتيجة إحساس الواقع، وانتقال الصورة إلى فؤاد الإنسان، فتتأثر مشاعره بها, فإما تعتبر كمعضلة أو ارتياح أو رغبة، هنالك حس مثير للحواس.

يحيل الإنسان، موضوع بحثنا، هذه العوامل إلى القلب (ما يشاع تسميته بالعقل)؛ لعقل هذا المحسوس، وتصنيفه ليدخل مرحلة الإدراك.

ماذا بعد الإدراك:

تجري عملية انشغال وتفكير: تحدد درجة الاهتمام والبحث عن وسائل وآليات التعامل معها، وهذه النقطة مهمة في التعامل المريح المحسوس، أيًا كان، فقد حددت ماهيته، لهذا وعند هذه النقطة يفتح له ملف، ويوكل لمكتب عمل.

هنالك مسار محدد لهذا كله، فالمعلومة ستعقل وتقبل، وربما تؤثر على السلوك، والتأثير على السلوك هو تعبير عن تغير ما على العقلية والنفسية، فهو تغير على الشخصية والكسب الثقافي العام، وهذا هو عمليًا إعادة تغذية لموطن العقل في تطوير المعلومة وإدارتها، وإعادة تثبيت مسارها.

هذه العملية مستمرة تحصل إراديًا ولا إراديًا، فما كان إراديًا هو موضع الاهتمام الشخصي، واللاإرادي هو التأثير لماهية المتلقي من معلومة, وتفاعلها مع القادم من معلومات, لتبرز للاهتمام في وقت ما لاحقًا بعد خزنها.

لنأخذ مثالًا نحقق عليه إدارة الأمر المدرك والمتحول للاهتمام وللسهولة، سنضع مهامًا أربعًا, وهذا يعني أن لهذا الإنسان أربعة مكاتب فيها ملفات، هذه الملفات تصنف لها أولويات:

 

في عمله هو نوعا ما سيكون منقطعًا لأداء مهامه, فيكون مشغولًا بأولويات عمله لحين عودته لمنزله، ربما يفتح ملف حاجيات المنزل وهو في الطريق ليذهب إلى السوق مثلًا، وقد يستدعى كطبيب لعيادة أحد أقاربه أو جيرانه وهو جالس يعالج مهام موقعه على الانترنت، أو يكتب أحد رواياته، أو يطلب منه حاجة ما للمنزل كمساعدة أحد أبنائه في الدراسة، أو شيء ما يشغل زوجه.

هنا ستجري عملية انتقال بين المكاتب والملفات، إن لم يرتب هذه الملفات في مكاتبها فسيصيبه الضجر من مقاطعته بعمله الذي بين يديه، فيقوم منشغلًا به وهو يؤدي عمله الآخر، فلا ينبغي له مثلًا أن يذهب إلى السوق القريب وهو منشغل؛ لأنه سيلتقي بجيرانه الموجودين هناك، لربما يهمل السلام على أحد منهم، أو لا يراه حتى رغم أنه ينظر إليه، وسيعطي فكرة مشوشة عن تركيبته العقلية نتيجة تشويشها فعلًا.

إحدى آليات التنظيم هي في تصور قواطع الحاسبة، وملفات مرتبطة بأخرى أصلية على سطح المكتب، إذا كان يكتب قصة مثلًا أو رواية أو أي عمل من هذا، فينهي جملة يكتبها بنقطة، ثم يضع كلمة، أو مجموعة كلمات، تؤدي لاستعادته الفكرة والاسترسال, ويقفل الملف ليفتح ملف السوق من لحظتها، فيكون هو أمامه، يتصرف بشكل وكأنه مهمته الوحيدة، يعتبر هذا العمل رياضة واستجمام، وله كل الاهتمام، يسلم على جيرانه ويلاطفهم، ويتبادل معهم ما يعرض عليه من خصوصياتهم، أو من النواحي العامة، وربما يفتح ملفه كطبيب ويتكلم بإعراض عند أحد جيرانه, فإذا وجد فيه ما يستدعي فحصه يطلب منه زيارته، ويسجل ذلك عنده ويتابعه إن تردد جاره للقدوم، هذا نوع من البناء السلوكي المؤثر والمتأثر بضعف أو خلط إدارة الملفات.

ربما خلال ذلك يكتب أو يساعد أحد أبنائه، ويعترضه سؤال على الموقع يجد إجابته مهمة، يعطي سؤالًا أو تمرينًا لابنه أو ابنته، ثم ينتقل بالكلية إلى إجابة التساؤل.

هذا يبدو أنه رتب تفكيره كما المكاتب المنظورة من بعضها, وهو يشاهدها جميعًا, وينتقل إلى كل مكتب بسلاسة, خصوصًا وأنه رتب لنفسه سطح مكتب في ممارسته, فلا يحتاج للانتقال من مكتب إلى آخر, وإنما يستدعيه بفتحه المباشر.

إذًا هي عملية إدارة أين توضع النقطة قبل الانتقال, وعملية وضع ما يمكّن الإنسان من استعادة الفكرة واسترسالها، وهذه مهارة، كأي مهارة، ممكن أن ترسخ بالتمرين.

من المؤكد أن هذا المثل أعطى صورة عن عملية تداخل الأنشطة، وأن الإنسان لا يقيم في تفكيره مكاتب زجاجية فعلًا، وإنما مكاتب شفافة من حيث رؤيتها، وكأنه واقف يرى أي نشاط أو حراك ليتجه إليه، لكننا لا نعني التداخل فقط؛ بل عملية تنظيم الحياة ككل لتكون سلسة بلا زخم عصبي، مرتبة, فالوقت لكل نشاط مختلف عن الأنشطة الأخرى، والعامل على المهام مختلف، سواء كان وحده أو هنالك من يشاركه، ورأس ماله جهده.

هو لا ينظم وقته على المسار الحرج كما في برنامج برايميفيرا أو بحوث العمليات(1), ولكنه ينظم الحراك والأنشطة في تفكيره واهتماماته بحيث تكون لها أولوية واحدة؛ لأنه يتعامل في كل نشاط مع أناس آخرين، يتوقعون ألا يكونوا في مقام أولوية، والعلاقات الإنسانية تحتاج إلى رعاية الثمين القابل للكسر، ولو تفكر الإنسان وجعل كل هذه العلاقات والأنشطة مع الله لأدرك تمامًا لماذا هي تحظى بأولوية واحدة.

وكيف يقف في الصلاة ولا تشغله كل هذه الأمور؛ لأن علاقته المباشرة مع الله إنما هي نوع التسديد للقناعات؛ حيث تسترخي كل الفاعلية لتلقي العزم بين وقت وآخر, وما يواجه من عقبات، ليس أقلها مقابلة الحسن بالقبيح.

إن ربط علاقة الشخص مع الناس من خلال علاقته بالله تُوقف تكوّن المشاعر السلبية, أو حتى الترسب الجزئي لفاعليتها, فلا يكون لها أساس في فكره, والحقيقة أنّ هذه المشاعر، السلبية، هي السبب في إعطاب منظومة الإنسان ليكون إنسانًا حقًا، فإنْ منعتها من التكوّن كان هذا النظام يعني حياة منتجة ولها معنًا وجوديًا مميزًا؛ لأنك تعمل مع الله، ولا ترجو إلا رضاه.

وهذا بالنسبة للإنسان هو مضاد الإحباط وتذبذب العمل وعدم استقرار نفسيته وسلامة عقليته, هي رحمة من الله إذًا, وكذلك يفعل السالكون لدرب النهضة على أساس رباني، وإلا كيف يداوي الناسَ مَن هو عليل بعلتهم ويعجز عن صدها {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران:159](2).

_______________

(1) Primavera: برنامج يستخدمه المهندسون لحساب المسار الأفضل في برامج العمل، بالمفاضلة بين عوامل (الزمن والعمالة والمال)، بثبات النوعية وتحريك وتثبيت هذه العوامل للوصول إلى أمثلها, وهذا من ضمن ما يسمى ببحوث العمليات، وينشأ عنه جدول زمني، وتداخل بين الفقرات والأنشطة يحدد الشروع ونقطة الانتهاء, وكلها معلومات تعطى للبرنامج فيحسبها ويرسمها سريعًا، فهو برنامج لاختصار الجهد والزمن في التخطيط، ويمكن عمل هذا يدويًا.

(2) غلاظة القلب هي عقل الحوادث بشكل جامد، فيجعل الإنسان مستجيبًا للأنا, ورد فعل الفؤاد أو العواطف دون عقل للحدث، أي لو كنت، كما يقال، مزاجيًا متبعًا لهوى النفس، منفردًا برأيك، لما تمكنت من احتوائهم، ولما كانوا مطمئنين لك.

المصدر: موقع "يقظة فكر".