logo

وهم المثاقَفة


بتاريخ : الثلاثاء ، 20 رمضان ، 1436 الموافق 07 يوليو 2015
بقلم : الشيخ عبد الله بن محمد المالكي
وهم المثاقَفة

المثاقفة من المفردات التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذوالعطاء) بين الحضارات البشرية المتعددة. وهو اتجاه يسعى أن يكون وسطا بينالانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاقالمطلق الذي يؤول إلى الانعزال تمامًا عن الآخر والعالم بأسره.

 

وبهذاالمعنى تعد المثاقفة رافدًا مهما تسعى كل أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخرواستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانهاالثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية وثوابتها. كما أن مفهومالمثاقفة يصلح أن يكون بديلاً عن مفهوم الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياتهالرغبة في محو الهوية وإلحاقه بالآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرةفوقية احتقارية متغطرسة. هكذا تقدم المثاقفة في الفكر العربي المعاصر؛حالةٌ من الاعتدال بين الذوبان والتصلب في التعاطي مع ثقافة الآخر.

لكنإذا عدنا إلى مفهوم المثافقة في الفكر الغربي (Acculturation) فإننا سنجدهمختلفًا تمامًا عما يطرح في محيطنا الثقافي، حيث تطرح المثاقفة على أنها(علاقة بين متفوقة وثقافة متخلفة) (1)، بمعنى آخر كما يقول حسن حنفي: "أنالمثاقفة التي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي والتبادل الثقافي؛ هيفي الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافةالغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكلتقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله،واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب بالجديدة والأنماط الأخرى للتقدم" (2).

هذا من جهة المفهوم وأما من جهة الواقع والممارسة، فأغلب النتاجالثقافي في محيطنا العربي بكل أشكاله وأنواعه؛ لا يخرج عن سياق المفهومالغربي للمثاقفة. فكثير من مثقفينا (والمستغربين منهم على وجه الخصوص) قدوصل بهم المطاف من خلال هذه المثاقفة إلى حالةٍ لم يعد الواحد منهم قادرًاعلى الإبداع قولاً أو فعلاً إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجيةفي الحضارة الغربية: ماركسية أو وجودية أو وضعية أو بنيوية أو تفكيكية أوأي شيء آخر، المهم أن يكون النموذج الغربي هو المنطلق. وبعبارة أخرى: أصبحالغرب من خلال هذه المثاقفة هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداعذاتي عربي. وكما يعترف حسن حنفي -وأنا استشهد به هنا لكونه يعد من أكبر منمارس المثاقفة مع الفكر الغربي- يقول: "منذ أكثر من قرنين من الزمان نترجم،ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفًا صريحًا واضحاً.ما زال موقفنا موقف الناقل، عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد...

ومازال أكبر مشروع لدينا إلى وقت قريب هو النقل، والذي سميناه ترجمة الأعمالالكاملة لكبار المفكرين في الغرب، ويظل أكبر مشروع لنا في ثورتنا الحديثةهو ترجمة (الألف كتاب) نقلاً عن المؤلفات الغربية... وكأننا محكوم علينابالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلموالصبي أمام الأستاذ والمعلم الكبير... لقد أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب،وأصبح حامل العلم والفكر لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر عددممكن من الأسماء والأعلام والمذاهب الفكرية من الغرب منتسباً إلى أحدها،داخلاً في معاركها، داخلاً فيما لا شأن له به، حاشرًا نفسه في معارك لمينشئها ولم يكن طرفاً فيها... وتنتشر المصطلحات بين الباحثين الشبابفيشعرون بضالتهم أمامها:الهرمنيوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية،التفكيكية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندتالية، وتكثر عباراتالتمفصلات، التمظهرات، الابتسميه، الدياكرونية، السنكرونية... إلخ. وأصبحالمثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم هذه المصطلحات" (3).

هذا اعتراف أحدكبار الممارسين للمثاقفة مع الفكر الغربي، ومثل هذا نجده من قبل عند زكينجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم مما لا يتسعالمقام للوقوف على نصوصهم.

أريد هنا أن أشير إلي أن الفكرة الأساسيةالتي تقف وراء هذه الإشكالية المسماة بـ(المثقافة)، هي كالتالي: الاعتقادالمطلق بأن الثقافة الغربية، نتاج إنساني عالمي، يتجاوز الزمان والمكان،ويعبر حدود الجغرافيا والتاريخ.

وبالتالي لا يختص بحضارة دون حضارة. وفيجملة واحدة (نزع الخصوصية عن الثقافة الغربية). هذا الاعتقاد هو أكبر وهمما زال يعشش في أذهان كثير من مثقفينا العرب. فالفكر الغربي في حقيقته لايعدو أن يكون بيئيًا محضًا -كأي فكري بشري- نشأ في ظروف معينة هي تاريخالغرب نفسه، وبالتالي فهو صدى لتلك الظروف. والمفكِّرون الغربيون -كما يقولحسن حنفي في اعترافه السابق-: "يعبّرون عن ذلك بأنفسهم بقولهم: فلسفتنا،حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا، بل حتى ديننا!وإلهنا! فعند الكتَّاب الأوربيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارةبعينها، وبأنهم ينتمون إلى حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى.لذلك كان خطؤنا، نحن الكتَّاب العرب غير الأوربيين، الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها، وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها- اعتبار الحضارة الأوربيةحضارة عامة للناس جميعاً، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبةًفي الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثناالقديم، أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين".

باختصارشديد؛ حالة المثقافة لدى المثقفين العرب لا تعدو أن تكون صورة جديدة (ومهذبة!) من صور الاسترقاق والتبعية الثقافية للنموذج الغربي وهي امتدادلما ابتلينا به منذ فجر النهضة العربية على أيدي الليبراليين والحداثيينالعرب، والتي تحولت معهم النهضة من حلٍّ للأزمة إلى أزمة في ذاتها. وإلىاليوم ونحن نعيش هذه الأزمة (أزمة التراث والمعاصرة).

(1) انظر: المورد الانجليزي العربي.

(2) حسن حنفي، مقدمه في علم الاستغراب: ص 29.

(3) نفس المصدر: ص 54.


المصدر: موقع الدرر السنية