logo

التفاؤل في زمن التشاؤم


بتاريخ : الجمعة ، 3 رجب ، 1438 الموافق 31 مارس 2017
بقلم : د. عامر الهوشان
التفاؤل في زمن التشاؤم

في أوقات الشدة وازدياد الأزمات، وعند توالي النكبات والابتلاءات على كثير من أبناء الأمة الإسلامية ودولها، كما هو الحال في هذه الأيام، يمكن أن يحل التشاؤم بدل التفاؤل، ويتسرب اليأس من نصر الله واقتراب فَرَجه إلى بعض نفوس أتباع الدين الخاتم، أو يتسلل القنوط، المحرم في دين الله تعالى، إلى بعض الأفئدة، خصوصًا مع تكالب أعداء الأمة عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، كما وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

في مثل هذه الأوقات تزداد الحاجة إلى بث روح التفاؤل، الذي هو في الحقيقة منهج القرآن الكريم، ومنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، في نفوس المسلمين في كل مكان، وتتأكد ضرورة تذكيرهم بالعودة إلى أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بحسن الظن بالله تعالى، المنصوص عليه بالكتاب والسنة.

نعم، قد يتساءل البعض: كيف يمكن لأحدنا أن يتفاءل وهو يرى أن الأزمات والنكبات تتوالى على الأمة الإسلامية منذ عقود وحتى الآن؟! ولعل ما يجري في كل من سورية والعراق واليمن خير شاهد على ذلك، أم كيف لا يتشاءم وهو يرى ديار المسلمين تستباح، ودماؤها تسيل، ومقدساتها تنتهك؟!

ولعل خير جواب على هذا السؤال ما قاله أ. د. ناصر العمر، المشرف العام على مؤسسة ديوان المسلم، في حوار له على قناة المجد مع برنامج (في الدائرة)، عام 2007م، تحت عنوان: "الأمة بين التفاؤل والتشاؤم"؛ حيث قال: «وهل يكون التفاؤل إلا في الأزمات؟! في وقت الرخاء لا حاجة إلى التفاؤل، هل تحتاج أنت إلى الإضاءة إلا في الظلمات، أما في رابعة النهار لا تحتاج إلى إضاءة أو غيرها».

والحقيقة أن المطلع على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرك تمامًا صواب ما قاله أ. د. ناصر، ففي أشد الأوقات العصيبة، التي مرت بها الدعوة الإسلامية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه، ويبث في نفوسهم معاني التفاؤل والأمل، وحسن الظن بالله، واليقين بصدق وعده لعباده المؤمنين، ومع توالي الأزمات وتكاثرها، وتكالب الأعداء، وتحزبهم ضد دين الله يزداد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تفاؤلًا بمستقبل دعوته، ويقينًا بموعود ربه سبحانه.

ولنبدأ بالمرحلة المكية، التي كان المسلمون فيها قلة مستضعفين، وقد اشتد أذى المشركين على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أقصاه، وجاء بعض الصحابة يسألون الرسول الكريم الدعاء لهم، وكأنهم قد تعجلوا النصر أو تسلل إلى نفوس بعضهم شيء من اليأس من شدة الكرب، فبادر النبي المعلم المربي لمعالجة ذلك ببث روح التفاؤل في نفوسهم، رغم أن ظاهر الواقع شديد الألم ومرير.

ففي الحديث عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال بعد أن ذكرهم بصبر من كان قبلهم: «... والله، ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [صحيح البخاري (3612)].

وإذا انتقلنا إلى حادثة الهجرة، التي مرت ذكراها على الأمة قبل أيام، فإننا نجد فيها تأكيدًا جليًا على منهج التفاؤل وحسن الظن بالله، الذي كان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم يتبعه في دعوته، ويبثه في نفوس أصحابه في أحلك الظروف وأشدها، وهل هناك شدة أبلغ من حالة الرسول الكريم في حادثة الهجرة؟! فقد كان ملاحقًا مطاردًا من مشركي مكة، وقد جعلوا لمن يدل عليه أو يأتيهم به حيًا أو ميتًا مئة ناقة، وقد استطاع سراقة بن مالك أن يعثر عليه وعلى صاحبه ويلاحقهما، حتى قال أبو بكر، وهو يروي لنا تفاصيل الموقف: «فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}» [صحيح البخاري (2652)].

بهذه الكلمات القليلة، المليئة بالتفاؤل واليقين والثقة بالله، بدد الرسول الكريم مخاوف أبي بكر رضي الله عنه وخشيته على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية، كما أن منهجه صلى الله عليه وسلم في التفاؤل كان أشد وضوحًا في الغار مع صاحبه، ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه قال، بعد أن وصل المشركون إلى فم الغار: «يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا»، فكان رده صلى الله عليه وسلم مليء بحسن الظن بالله، في أشد لحظات الكرب والشدة والمحنة: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» [صحيح البخاري (4663)].

ويمكن للمسلم أن يستخلص من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب دروس التفاؤل في أعظم محنة وبلاء ابتلي به المسلمون، ويكفي أن الله تعالى وصف حالة المسلمين حينها بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب:10-11].

في تلك الحالة التي عاشها المسلمون الأوائل، من الحصار وتكالب الأعداء وتحزبهم ضد دين الله وعباده المؤمنين، والتي تشبه، إلى حد كبير، حالة المسلمين اليوم الذين تحالفت قوى البغي والعدوان ضدهم، كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم التبشير والتفاؤل لا التنفير والتيئيس والتشاؤم، فلم يقتصر تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالخروج من حصار الأحزاب وتكالبهم على معقل المسلمين، وتحقيق النصر عليهم بجلائهم مدحورين مهزومين؛ بل بشرهم بفتح بلاد كسرى وقيصر، وبلوغ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها.

وحين بلغه نبأ نقض بني قريظة عهدها معه في تلك الغزوة، مع ما يحمله ذلك النبأ من خطر محدق بالمسلمين وبالدعوة الإسلامية نفسها، لم يزد على أن قال صلى الله عليه وسلم، كما جاء في (زاد المعاد) لابن القيم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين».

إنها مواقف نبوية صارخة في الدلالة على أن منهج الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأزمات والمحن هو التفاؤل لا التشاؤم، والتبشير لا التيئيس، وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى لا سوء الظن، واليقين والثقة بصدق وعده لعباده المؤمنين ولو بعد حين.

أما كثرة الجراحات، وازدياد الآلام، وشدة البلاء فليس سببًا في يأس بعض المسلمين من نصر الله، أو مبررًا لإبداء التشاؤم ونشر التيئيس بين عموم المسلمين، فشدة ظلمة الليل تؤذن باقتراب طلوع الفجر وبزوغ النهار.

اشتدي أزمــــــة تنفـــرجي       قـــــد آذن ليـــــلك بالبلج

وظلام الليل له سرج       حتي يغشاه أبو السرج

______________

المصدر: موقع المسلم.