logo

فــهــم الــديــن


بتاريخ : الأحد ، 18 جمادى الأول ، 1447 الموافق 09 نوفمبر 2025
بقلم : عبد المجيد النجار
فــهــم الــديــن

تقرر لدينا أن مصدر الدين هو القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وإذا كانت السنة تشمل البيانات السلوكية العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وإقراراته للأعمال التي يشهدها، فإن الأصل في الدين يبقى هو القرآن الكريم والسنة القولية، فهما المرجع الأول لكل من رام فهم الدين، والسنة الفعلية والاقرارية إنما هي تطبيقات مساعدة على الفهم.

والقرآن والسنة القولية هما بيانات نصّيّة، جملت فيهما المعاني المعبرة عن المراد الإلهي، في وعاء من اللغة على اللسان العربي، وليست اللغة إلا رموزًا، تحمل المعاني من القائل إلى السامع، وهي رموز تشتمل على عمليتين معقدتين:

الأولى: إفراغ المعاني في رموز اللغة من تلقاء القائل.

والثانية: تحليل الرموز إلى المعاني المشتملة عليها من تلقاء السامع، وحينما تكون اللغة بشرية، فإن انتقال المعاني من القائل إلى السمع، عبر تينك العمليتين، من شأنه أن يصيب تلك المعاني بشيء من التفاوت، بين حقيقتها لدى قائلها، وبين صورتها التي تحصل عند سامعها، أو يجعلها على الأقل قابلة لأن تصاب بذلك التفاوت، وذلك لأن اللغة في حقيقتها الرمزية لا تحمل المعاني ولا تؤديها في كثير من الأحوال، إلا على سبيل الظن، مما يفسح المجال للاحتمال، والتأويل في المعاني المحمولة، وهو ما يكون به التفاوت المشار إليه آنفًا.

ولغة القرآن والحديث بلغت من حيث حملها المعاني، وتعبيرها عن المراد الإلهي، الحد الأقصى في الكمال، وهو ما بلغ في القرآن الكريم درجة الإعجاز، وبلغ في الحديث النبوي درجة عليا من البلاغة، إلا أنه مع ذلك تبقى العملية الثانية وهي تحويل معاني القرآن والحديث إلى أذهان القارئين والدارسين لهما عملية تحمل إمكان التفاوت بين المراد وبين الحاصل، وعلى الأخص في الشطر الذي يُعرف بظني الدلالة فيهما.

 

ولهذا الاعتبار فإن فهم الدين من أصله النصي ليس بالأمر الهيّن الذي يحصل على نحو أقرب إلى التلقائية، كما يظن بعض الناس، بل هو أمر خطير الشأن، وخاصة إذا لابسته ظروف من الضعف، في فقه اللغة العربية، وقوانينها في التعبير، أو من الميل إلى التعسف في استخراج المعاني من وعائها اللغوي، وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نتبين في خطورة هذا الأمر أن الانحراف في الفهم يؤدي إلى التشرع بما لم يرده الله، مع ما قد يجره ذلك من ضلال وخسران، وخاصة إذا كان نتيجة تعجّل، لم يستفرغ معه الوسع في التبيّن والاجتهاد.

 

وليس فهم الدين من أصله النصي عملية آلية، يكفي فيها التحري في ملازمة ظاهر القوانين اللغوية؛ بل هي أعقد من ذلك بكثير، فالنص الديني نفسه، ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعًا في كل مكان وزمان، باعتبار خاتمية الوحي فيه، وهذا ما يجعل المجموع النصي يحمل من كنوز المعاني، ما لا يستنفده فهمًا جيلٌ واحد من المسلمين؛ بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله، وذلك وجه من وجود إعجازه، كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف، التي يكسبها من خارج دائرة النص، بل إن لها علاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته، سواء ما كان منها من نزول الوحي، أو زمن عملية الفهم.

 

وسنحاول فيما يلي أن نرسم ملامح أساسية لضوابط وقواعد عامة من شأنها أن تسدد عملية فهم الدين من النص، والملاحظ أن علماء أصول الفقه قد فصلوا القول في ضوابط الفهم وأسسه، ولكننا في هذا المقام سنعمد إلى عرض أسس كلية لا جزئية تفصيلية، وذلك لأن هذه الأسس الكلية هي التي دار عليها عبر تاريخ الفكر الإسلامي تضارب الأفهام، إلى ما يصل إلى التناقض أحيانًا، ولا يزال الأمر كذلك إلى يوم الناس هذا، وسنقدم بين يدي هذه الأسس مقارنة بين المراد الحقيقي من النص، وبين محصول الفهم البشري منه، فيما إذا كان هذا الفهم يعتبر دينًا، إذا كان متفاوتًا مع المراد الإلهي، ففي هذه المقارنة ما يساعد على بسط القول في ضوابط الفهم وأسسه.

 

1- الدين بين المراد الإلهي وبين الفهم البشري:

لقد تضمنت نصوص الوحي الهدي الديني على مستويات مختلفة، فبعضها تضمن هذا الهدي بصفة قطعية في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يفهم منها إلا وجهٌ واحد، هو المراد الإلهي على وجه اليقين. وبعضُها تضمن معاني بصفة ظنية في الدلالة، بحيث يمكن أن يُفهم منها أكثر من وجه واحد من الوجوه المحتملة، وبعضها لم يتضمن إلا إرشادًا عامًا مقصديًّا، ينير السبيل في المجالات، التي لم ترد فيها هداية نصية مباشرة.

 

ومن البيّن أن النوع الأول تعيّن فيه المُراد الإلهي، فليس للعقل البشري إلا أن يكون محصوله في الفهم مطابقًا لذلك المراد، أي مطابقًا لما تضمنه النص القطعي من دين، ولكن النوع الثاني والثالث على وجه الخصوص، بما بُنيا عليه من ظنية في حمل معاني الدين، فإن العقل لما يتوجه إليهما بغية الفهم للمراد الإلهي، حتى يُتخذ دينًا، قد يصيب ذلك المراد، وقد يُخطئه، بمقتضى الظنية، وحينئذ فأيهما يُعتبر دينًا، هل هو المراد الإلهي في حقيقته، أو هو المحصول الاجتهادي من الفهم، حتى وإن أخطأ ذلك المراد؟ أو أن ذلك المراد لا يكون في بعض الحالات محددًا سلفًا، وإنما يكون تبعًا للفهم الاجتهادي، فيصبح ذلك الفهم دينًا في أي صورة انتهى إليها الاجتهاد؟

 

وقد تبدو هذه المسألة غير ذات أهمية عملية، تتناسب مع الغرض الذي التزمناه من هذا البحث، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، نظرًا للمساحة المتسعة لما هو ظني من الدين، حيث تشمل أكثر الأحكام المصرِّفة لشؤون التعامل بين الناس، وضمنها تندرج الاجتهادات التي تبغي حلولًا دينية لمستجدات الأوضاع في حياة الفرد والمجتمع، وهي في حال المسلمين اليوم متراكمة أشد ما يكون التراكم، تنتظر أفهامًا دينية، تجد على أساسها طريقها إلى الحل.

 

إن هذه الحيثيات كلها تشدد من وجوب التحري في الاجتهاد لفهم الدين إلى حدوده القصوى، حتى لا يؤول أمر المسلمين إلى أن يتخذوا من خطرات العقل، وبنات الوهم، وثمرات الهوى، ما يحسبونه دينًا يبغون به الفلاح في مسيرة التحضر.

 

وإننا لنرى اليوم من بين المنتمين إلى الإسلام من يتجاوز ما هو ظني من الدين، إلى ما هو قطعي منه، يبغي له تأويلًا عقليًّا بعيدًا عن حقيقته، ويحسب ذلك التأويل دينًا بل هو الدين، وفي هذا تندرج الدعوة إلى العلمانية، وإبطال الحدود، وإجازة الربا، في نطاق تفسير الإسلام بما يلائم العصر، وهذا إهدار للحقيقة الدينية من أساسها.

 

وبهذا الاعتبار فإنه يصبح من المهم في فهم الدين، أن تُعلم أولًا حقيقة الدين، في تراوحها بين المراد الإلهي في ذاته، وبين ما يحصله العقل بعد اجتهاده في فهم ذلك المراد، وذلك من خلال النص في مستوياته الثلاثة، الآنفة الذكر، فمعرفة هذا الأمر من شأنها أن تُسدد عملية الفهم، وأن تفصل بين ما هو دين، وبين ما هو خواطر إنسانية ذاتية.

 

وقد كان الفكر الأصولي الفقهي على وعي عميق بهذا الأمر، فخصص من بين مباحث الاجتهاد مبحثًا، ناقش فيه حقيقة الدين، هل هي حقيقة ثابتة معينة سلفًا، ومستقلة عن الفهم البشري، أو هي ثابتة في بعض القضايا، وتابعة للفهم الاجتهادي، بحيث يكون هذا الفهم هو المعين لها في بعض القضايا الأخرى؟ وعلى الرغم مما تفرعت إليه الأقوال في هذا المبحث، مما قد يبدو أوْغَلَ في التجريد، فإننا نحسب أن تناول أصل القضية بالمطارحة مُفيد في تسديد الفهم، الذي يؤدي إليه الاجتهاد، ولذلك تُرجم هذا المبحث في كثير من الكتب الأصولية بمبحث "الإصابة والخطأ في الاجتهاد".

 

وخلاصة آراء الأصوليين في هذه القضية، أن أحكام الله منها القطعي، مثل أصول العقيدة، وما علم من الدين بالضرورة، من أحكام الشريعة المنصوص عليها على وجه يقيني الدلالة، ومنها الظني، الذي يشمل الأحكام الشرعية المنصوص عليها على وجه يحتمل أكثر من معنى واحد، والأحكام التي يرد فيها نص ولكنها تندرج ضمن أصول الهدي العام.

 

والأحكام القطعية هي أحكام معيّنة ثابتة، ينحصر الدين فيها في وجهها اليقيني الوحيد، فالناظر فيها لفهم الدين منها إن أصاب فهمه ذلك الوجه الوحيد فقد أصاب الدين، وإن أخطأه فقد أخطأ الدين وانحرف عنه وهو آثم بذلك، وعلى هذا المعنى فليس لأحد أن يتأول في الفهم، ما جاء في النصوص، من أحكام التعبد، أو أنصبة الميراث، أو أنواع الحدود ومقاديرها، فيصدر بمحصول مخالف لها في ثبوتها أو في كيفيتها، ثم يدعي أن محصوله ذاك من الفهم يندرج ضمن الدين الإلهي، ويبشر به ويجري حياته عليه على ذلك الأساس.

 

وهذا الرأي الذي يكاد يجمع عليه الفكر الإسلامي الأصولي، يجد مبرره في المحافظة على الثبات في أصول الدين، حتى لا تصبح الحقيقة الدينية عرضة للنسخ، بحجة الاجتهاد العقلي، الذي تهدر فيه الدلالة اللغوية أصلًا بتأول اليقيني منها، فلا يبقى إذًا للدين الإلهي رسم ثابت، ويمكن أن تحل محله شريعة عقلية خالصة، مع الادعاء بأنها إلهية، ولا يخفى أن هذا الأمر وقع شيء منه في تاريخ الفكر الإسلامي، متمثلًا على وجه الخصوص في تأولات الباطنية، التي أتت على كل حقيقة ثابتة في الوحي، واستعاضت عنها بأوهام إنسانية، ويقع شيء منه في التاريخ المعاصر، متمثلًا في باطنية جديدة تُسقط من الدين أحكامًا يقينية، بحجة التقادم الزمني، وتستعيض عنها بأحكام وضعية، على أنها مُرادٌ إلهي، توصل العقل إلى فهمه بالاجتهاد.

 

أما الأحكام الظنية المنصوص عليها، أو الموجه إليها بالمقاصد العامة، فإن الأصوليين اختلفوا حيالها فرقتين "فقال قوم: كل مُجتهد فيها مصيب، وإن حكم الله فيها لا يكون واحدًا، بل هو تابع لظن المجتهد، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب عليه ظنه (1)، وعُرف هؤلاء بالمصوّبة لقولهم: بأن كل مجتهد مُصيب لحقيقة الدين باجتهاده، ومن بينهم الإمام الغزالي الذي يقول في تبني هذا الرأي: والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى (2)، وذهب آخرون إلى أن: المُصيب فيها واحد، ومن عداه مخطئ؛ لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيّنًا؛ لأن الطالب يستدعي مطلوبًا، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر (3)، وعُرف هؤلاء بالمُخطِّئة لقولهم: بأن المجتهد الذي لا يصيب مُراد الله الثابت، فهمه خاطئ ولا يعتبر دينًا (4).

 

وهذا الخلاف بين الوجهتين هو خلاف على مستوى نظري، يمكن أن يتحول على المستوى الفعلي إلى تضافر لترشيد الاجتهاد في الفهم، فيؤدي رأي المخطئة إلى التذرع بالمزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر، ويؤدي رأي المصوبة إلى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم، والركون إلى أفهام من سلف، ليتخذها الخلف دينًا، يجرون عليها حياتهم، من حيث قد لا تكون مناسبة لأوضاعها وملابساتها.

 

وربما يكون رأي المصوبة أجدى عمليًّا، في تطوير حياة الإنسان وإخصابها بما يعود عليه بالنفع؛ ذلك لأنه رأي ينفسح فيه المجال، لأن تتحصل لدى المجتهدين عبر الأجيال أفهامٌ تتغاير في نوع القضية الواحدة من قضايا الحياة، ويكون كل فهمٍ منها محققًا لمصلحة المسلمين في تلك القضية، بحسب تغاير أعيانها عبر الزمن، لتغاير ظروفها وملابساتها الشخصية، فإذا ما اطمأن المسلم إلى أن المراد الإلهي في الظنيات قد يكون مختلفًا باختلاف الظروف العينية، وأن الأفهام قد تختلف تبعًا لذلك، ولكنها لا تخرج عن أن تكون دينًا إلهيًّا، فإنه حينئذ سيكون أكثر اندفاعًا إلى معالجة أوضاع حياته المنقلبة بالزمن، بحلول تؤدي إلى تحقيق صلاحه، وهي في ذات الحين مشتقة من دين الله، الذي هو ما يتوصل إليه العقل بالاجتهاد، إلا أن هذا الموقف يستلزم قدرًا كبيرًا من الاعتصام بالإخلاص والتحري، دفعًا لخاطرات الهوى الملحاحة في مثل هذا المقام، والتي إذا ما وجدت منفذًا إلى المجتهد صيرت أهواء الناس وأوهامهم دينًا إلهيًّا، يتدينون به في حياتهم.

 

وكأني بفكرة التصويب كانت الأكثر رواجًا بين الأصوليين والفقهاء الأقدم زمنًا، فقد كانت تتلاءم مع الحركة الاجتهادية الفقهية، التي شهدت الازدهار، قبل القرن الخامس، لما في طبيعتها من دافعية للاجتهاد، وفي المصادر الأصولية، أن من المصوبة القاضي الباقلاني (ت 403هـ )، وأبا حامد الغزالي (تـ505هـ )، ومن قبلهما أغلب أصحاب لإمام الشافعي (تـ 204هـ )، وأبا الهذيل العلاف (تـ 235هـ )، وأبا علي الجبائي (تـ303هـ )، وابنه أبا هاشم (تـ 321هـ )، فلما مال أمر الفقه إلى التقليد، أصبحت فكرة التخطئة أكثر رواجًا بين الأصوليين، لأنها أكثر تلاؤمًا في طبيعتها مع التقليد (5).

 

وبالنظر إلى وضع المسلمين اليوم، فإن مذهب التصويب أنسب لمعالجة عللهم، إذ هو يدفع إلى أن يجتهد العلماء في فهم الظنيات من الأحكام، ليصدروا منها بأفهام تسدد الأوضاع الكثيرة المائلة عن سمت الدين، وتكون هذه الأفهام مبنية على ما فيه صلاح هذه الأوضاع، اعتبارًا بمستجدات عناصرها، ومتشابك ملابساتها، ومتحررة من أفهام اجتهادية، قد تكون صدرت عن مجتهدين قدامى في ذات النوع من القضايا، ولكنها كانت مبنية على أوضاع وملابسات طواها الزمن، وبسط أوضاعًا وملابسات جديدة، ثم تؤخذ هذه الأفهام الاجتهادية الجديدة على أنها مراد إلهي، لتكون لها بذلك قوة النفاذ، وفعالية الإصلاح، وتعبئة النفوس للإنجاز، وعلى هذا الأساس فإننا نعتبر الاجتهاد في الفهم يناسبه في واقع المسلمين اليوم أن يقوم على خلفية تصويبية، تنأى به عن التقليد، وتدفعه إلى التجديد مع استصحاب التحري، الذي يعصم من مدخلات الهوى ومفاتن الشيطان.

 

2- الضوابط النصية في فهم الدين:

إن أحكام الدين يحملها وعاء من اللغة، هي اللغة العربية، وقد اختارها الله تعالى لتحمل الدين الأبدي، لحكمة لعل منها ما لها من مقام في كفاءة الأداء لم تبلغه لغة غيرها، وقد كان لها في ذلك المقام أدب رفيع وثري، من القوانين في حمل المعاني وأدائها، كما أن المجموع النصي قرآنًا وحديثًا، يمثل في مختلف عناصره وحدة متكاملة في الهداية، متأتية من وحدة المصدر ووحدة الغاية، وليس النص الديني منبتًا عن واقع الأحداث والنوازل، على العهد الذي نزل فيه من الله على نبيه، بل هو وثيق الصلة بها، رغم مغازيه الأبدية وأحكامه المطلقة، تلك اعتبارات ثلاثة، تتعلق بنص الوحي، من حيث حمله للهدى الديني، لا يتأتى للمجتهد فهمٌ لأحكام الدين من خلاله إلا بمراعاتها، وذلك ما عنيناه بالضوابط النصية، ونجملها في ثلاثة، ضابط لغوي، وضابط تكاملي، وضابط ظرفي.

 

1- الضابط اللغـــوي:

لقد ذكرنا آنفًا، أن للّغة العربية على عهد نزول الوحي أدبًا متفرّدًا يتصف بالعمق والثراء، وعلى حسب هذا الأدب وقوانينه جاءت لغة الوحي تخاطب الناس، ويتبع ذلك بالضرورة، أن يكون فهم مدلولات النص الديني منضبطًا بقوانين ذلك الأدب وقواعده، فيما فُطرت عليه اللغة العربية من اللسان، حيث "تخاطب بالعام يُراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، وبالعام يُراد به الخاص، وظاهر يُراد به غير الظاهر، وكل ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبني أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى، كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأسماء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه (6).

 

وإذا كانت اللغة كائنًا حيًّا، يأتي عليه التطور، سواء في مدلول الألفاظ، أو في مدلول نظمها، فإن فهم أحكام الدين من نصوص الوحي، ينبغي أن يكون على بينة من هذا الأمر، حتى لا تسقط معانٍ ومدلولاتٌ لاحقة في حدوثها عن عهد نزول الوحي على النص الديني، فيحمل من المعنى ما لا يمكن أن يحمله، وتحصل من ذلك أفهام زائغة عن المراد الإلهي (7).

 

ولا يعني هذا الاحتراز العزوف عن كل مستجدات فقه اللغة وعلم الألسنية في فهم النصوص الدينية؛ بل إنه من المفيد استثمار ما وصلت إليه هذه المعلوم من نتائج علمية، والاستعانة بها على الفهم، ولكن ذلك ينبغي أن يكون في نطاق أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانزلاق في تأولات إسقاطية تحدث في الدين ما ليس فيه، بتحميل اللغة ما لم تحمله من المراد الإلهي.

 

وقد نشأت في تاريخ الفكر الإسلامي، من عدم التقيد بأدب اللغة العربية، أفهام للدين، غريبة عن حقيقته، بل مُهدرة لتلك الحقيقة أحيانًا، ويكفي في ذلك مثالًا، ما آل إليه غُلاة المتأولة من الباطنية، من تفسيرات لنصوص القرآن والحديث، تكاد تؤلف دينًا آخر، غير دين الإسلام، مما هو موروث من الأديان والفلسفات القديمة، ويقابل هؤلاء المتأولة قوم من الظاهرية، الذين قصروا دلالات اللغة على ظواهر اللفظ، وتحللوا من قانون اللسان العربي، في المجاز الذي هو ركن عظيم في الدلالة على المعاني.

 

وكأن هاتين النزعتين: الباطنية والظاهرية، ظلتا تتدافعان في حلقات متلاحقة من ردود الأفعال، مع التجديد في الشكل الظاهري، بحسب الظروف الزمنية، مع الإبقاء دومًا على إهدار قانون اللسان العربي، مهما كان السبب المذهبي، الذي جرّ إلى ذلك الإهدار تأويلًا أو حرفية ظاهرية؛ وفي ساحة الفكر الإسلامي اليوم مشهد من ذلك التاريخ السجالي، حيث نجد نزعة باطنية جديدة، تبحث عن معان دينية من خارج المقتضيات اللغوية للنص، في إيهام بأنها مدلولات لذلك النص، وخذ مثالًا لذلك مُعطِّلة الحدود، وأنصبة الميراث، بادعاء أن هذا التعطيل مُراد إلهي، يلتمس في النص الديني نفسه، كما نجد أيضًا نزعة حرفية في الفهم، تُصر المعاني الدينية على ظواهر الألفاظ، فتضفي على الحقيقة الدينية العميقة ثوبًا من الشكلية، تعطل دافعيتها في تحريك حياة الإنسان نحو الغاية المرجوة.

 

وإلى جانب هاتين النزعتين اللتين تتجاوزان الضابط اللغوي، بسبب مذهبي في الغالب، فإن الجهل المحض بقانون اللغة العربية يمثل عاملًا خطيرًا في الزيغ، بفهم الدين عن سمته الصحيح، ودواعي هذا الجهل هي اليوم أكثر توافرًا، بما يفشو من الزهد في التفقه في اللغة العربية وآدابها، ومن الأسباب التي ينبغي التذرع بها اليوم للفهم السديد لأحكام الدين تنشيط فقه اللغة وحذق آدابها.

 

ب- الضابط التكاملي:

إن نصوص الوحي قرآنًا وحديثًا وحدة متكاملة المعنى، تتضافر مختلف المقامات فيها على بيان الحقيقة الدينية؛ ولكن هذه المقامات ربما كانت مختلفة في طريقة البيان تبعًا لاختلاف مناسبات النزول، ومقتضيات أحواله، فقد يكون حكم ما ثابتًا في موضع من الوحي ويكون منسوخًا في موضع آخر، وقد يكون المعنى مجملًا في موضع، ومبينًا في موضع آخر، أو عامًا في موضع ومخصصًا في موضع آخر.

 

وباعتبار هذه الطبيعة في النص الديني، يكون من الضروري في فهم الأحكام الدينية، النظر في النص نظرًا متكاملًا، بحيث تُستقصى المواضع كلها التي عرضت بالبيان للقضية المعينة، والمقارنة بينها، واستيفاء بعضها من بعض، وفك ما يبدو أحيانًا في ظاهرها من تعارض ليستبين من ذلك كله المراد الإلهي في تلك القضية.

 

وقد بين الإمام الشاطبي هذا المعنى في قوله: إن القضية وإن اشتملت على جُمل، فبعضها متعلق ببعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على أخره، وإذ ذلك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض (8).

 

إن النظر الجزئي في النص الديني، اقتصارًا على موضع من مواضع البيان، يؤدي إلى فهم خاطئ في أغلب الأحيان، بل قد يؤدي إلى ما يخالف المراد الإلهي، كأن يقتصر على النظر في المنسوخ، وقد رفع الحكم الذي يحمله.

 

وقد شهد تاريخ الفكر الإسلامي نماذج عدة من نزعات الفهم الجزئي، التي قصرت عن النظر الكلي المتكامل، وخذ مثالًا على ذلك نزعة الخوارج في الفهم، فقد كان مأخذهم الأصلي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه رضي بتحكيم الرجال في موقعة صفين، والحال أن لا حكم إلا الله، ولو ردوا قضية التحكيم إلى ما ورد فيها في جملة القرآن والحديث، لتبين لهم أن في الدين سعة لما فعل علي رضي الله عنه؛ ونزعة الخوارج الجزئية تتكرر عند كثير من الجماعات عبر تاريخ المسلمين، بدرجات مختلفة، ولا يخلو منها عهدنا الراهن، وثمرتها في الغالب فهم ناشز عن الحق، رغم توفر صدق النية في أغلب الأحوال.

 

وقد تكون الطريقة التي شاعت في الثقافة الإسلامية في تفسير القرآن والحديث ساهمت في شيوع الفهم الجزئي، أو على الأقل هي قابلة لأن تساهم في ذلك، وهي طريقة الشرح التحليلي للنص الديني، الذي يغلب عليه المنهج التجزيئي، حيث يُرتب الشرح بحسب المواضع منفردة، فتضعف فيه النظرة التكاملية، مهما حاول الشارحون أن يقارنوا الموضع المعين، بما يماثله من المواضع الأخرى.

 

ولهذا الاعتبار فإنه يكون من عوامل الترشيد المهمة لفهم الدين شيوع منهج في تفسير القرآن والحديث يقوم على الشرح الموضوعي، الذي تتخذ فيه القضايا محاور للبحث، فتُستقطب كل البيانات الواردة فيها، لتتوفر فرصة للمقارنة، تفضي إلى فهم أكثر إحاطة بالمراد الإلهي، وأكثر رشدًا في إصابة الحق، وإذا كان ثمة اليوم اهتمام متزايد بالتفسير الموضوعي، فإن هذا المنهج لم يصبح بعد منهجًا شائعًا في الثقافة الإسلامية.

 

جـ- الضابط الظرفي:

لقد كان الوحي هداية واقعية للناس، ولذلك كان تنزله تنجيمًا بحسب نوازل تقع بالفعل، ليعالج من خلالها القضايا العامة، التي تتعلق بالإنسان المطلق، لما في ذلك من شدة الوقع في المعالجة، ومن ثمة اقترنت النصوص الدينية قرآنًا وحديثًا بمناسبات وأسباب في نزولها، متمثلة في وقائع وأحداث، عُرفت في الثقافة الإسلامية بأسباب النزول (9).

 

وهذه الوقائع والأحداث، التي كانت أسبابًا لنزول الوحي، تحمل من القرائن ومن مقتضيات الأحوال ما يكون ضروريًّا في فهم المراد الإلهي، من النصوص التي نزلت في شأنها، والتغافل عنها، قد يكون مدعاة إلى صرف المعنى عن حقيقة المراد، إلى ما يخالفه أو يناقضه، كأن يحمل حكم ما على المؤمنين، وقد نزل في الكفار أو العكس (10)، وقد كان عبد الله بن مسعود يعرِض اعتزازه بمعاشرة القرآن الكريم، وحذقه لمعانيه، فيقول في مقام الاستدلال على ذلك: والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت (11)، ولعل هذه المعرفة بأسباب النزول من ابن مسعود هي أحد الأسباب في التزكية النبوية لعلمه القرآني من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمر بأن يؤخذ القرآن من أربعة أحدهم ابن مسعود (12).

 

ويتبع المعرفة بأسباب النزول أحداثًا في الزمان والمكان، معرفة أحوال العرب وعاداتها حال نزول النص، فإن النصوص نزلت تخاطب الناس على مقتضى هذه العادات والأحوال، فيتوقف فهم مرادها على فهمها، وقد بين الإمام الشاطبي هذا المعنى بقوله: ليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط. ومن ذلك معرفة عادات العرب، في أقوالها وأفعالها، ومجاري أحوالها، حالة التنزيل (13).

 

وقد يشكل على بعضهم علاقة المعنى الذي يتضمنه النص بالسبب الذي نزل فيه، فيقع الميل إلى تخصيص الحكم بذلك السبب أحداثًا وأشخاصًا، وفهمه على أنه مقصور عليه، وهذه نزعة نلحظ فيها اليوم رواجًا، لدى من يرومون المروق من مبدأ الاستمرارية في الهدي الديني، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية، وجعلوا ذلك مبرر الاستعاضة عنها بأحكام وضعية، ومن البيّن أن هذه النزعة كفيلة بأن تهدم الدين أصلًا، حيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة.

 

ولعل من مظاهر الحكمة الإلهية، أن كانت الأسباب التي فيها نزل الوحي، غير مضمنة في النص الديني، القرآني منه على وجه الخصوص؛ بل ظل هذا النص مصوغًا في صيغة كلية عامة، حتى يبقى ذلك العموم في البيان، مفيدًا للعموم في الأحكام، مطلقًا من قيود التشخيص في الزمان والمكان، وهو ما تعارف عليه الأصوليون بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد جعلت الأسباب مأثورات تروى خارج النص، حتى يكون لها دور التجلية لمعناه، دون أن تميل به لو تضمنها في صلبه، إلى التخصيص، الذي يذهب بعمومية الأحكام.

 

3- دور المعرفة العقلية في فهم الدين:

نقصد بالمعرفة العقلية ما يكسبه العقل بنظره الذاتي، من معارف وعلوم، تتعلق بالكون أو بالإنسان، فهل من دور للعلوم العقلية في فهم الهدي الديني؟ وما هي طبيعة ذلك الدور ومظاهره؟

 

إن العقل لما يباشر النص الديني لاستجلاء معانيه، فإنه سيعتمد المبادئ المنطقية العامة للفكر، التي بُني عليها النص الديني نفسه، وهي القاسم المشترك الأصلي، بين الخطاب الديني، وبين المخاطب بالتكليف، ولكن عقل الإنسان معمور أيضًا، بحصيلة من المعارف المكتسبة عن الكون والإنسان، وهذه المعارف تتدخل حتمًا عند مباشرة النص الديني، أو أي نص غيره بالفهم، وذلك من طبيعة عملية الإدراك العقلي نفسها، إذ ليس من الممكن التخلي عن المكتسبات المعرفية للعقل عند فهم الخطاب.

 

وإذن فإنه يكون من الضروري، ومن المشروع، أن يكون للمعارف العقلية دور في فهم الدين، إلا أنه من الضروري أيضًا، أن يكون ذلك الدور سالكًا مسلك الرشد في استخدام هذه المعارف، في تحديد المُراد الإلهي، وذلك بأن يُفرّق بين نوعين من المعارف العقلية: نوع يكون الحقّ فيه يقينيًّا أو قريبًا من اليقيني، ونوع يكون الحق فيه مظنونًا ظنًّا ضعيفًا أو موهومًا، فيعتمد الأول في الفهم، ويترك الثاني فلا يكون له مدخل فيه، حتى لا يفضي إلى تحصيل أفهام دينية موهومة أو مظنونة ظنًّا ضعيفًا، وحينما تترشّد المعارف العقلية على هذا النحو فإن دورها في فهم الدّين يمكن أن يكون بالطريقتين التاليتين:

 

(أ) تعيين المدلول النصّي:

لقد أودع الله تعالى في وحيه علمًا محيطًا، فكان ما يشتمل عليه من الحقائق كنزًا لا يحيط الإنسان بآخره، وكأنما شاءت الإرادة الإلهية، أن يكون الهدي المرشد للحياة في كلّ ظروفها وأوضاعها مُودعًا في النصّ الديني بصفة جلية، بحيث يحصّله العقل بالنظر الأولي، مهما كان حظّه من كسبه الذاتي للمعرفة، وأن تكون جملة أخرى من الحقائق مودعة فيه، بحيث لا يحصّلها العقل إلا على ضوء ما يبلغه من المعارف الذّاتية، بحسب ما يترقّى الإنسان في ذلك ترقّيًا يفضي به إلى أوضاع من الحياة، يكون في سبيل تقويمها في حاجة إلى تلك الحقائق المودعة في النّص بصفة غير جلية فيحصّلها بالنظر الاجتهادي، تدفعه إليها حاجة الظروف المستجدة، وتهديه إليها معارفه المكتسبة.

 

ولهذا السبب كان القرآن والحديث معينًا لا ينضب للمفسرين والمحلّلين، يتوالون على مر الزمن على الغوص فيه، ويصدر كلٌّ منهم بحصيلة من الكنوز، بعضها مشتركٌ بينهم جميعًا، وبعضها يختص به بعضهم دون الآخرين، استجابة للنوازل المستجدّة، واستهداء بعلوم الإنسان، وسيبقى الأمر كذلك، ما بقي القرآن، وما بقيت الأمة الإسلامية.

 

وفي نطاق هذا الدور يكتشف الناظر في النص الديني حقائق كونية وإنسانية، بما وصل إليه العقل من معارف في هذا المجال. ولدى العلماء اليوم حصيلة ثرية من هذه الحقائق مترجم لها في الغالب بالإعجاز العلمي في القرآن والحديث (14)، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الأفهام الجديدة للدين لا دور لها في هدي الحياة، من حيث هي دين، باعتبار أنها كانت حاصلة في العقل أولًا، باعتبارها كسبًا ذاتيًّا له، والحقيقة أنها لما غدت أفهامًا دينية، فإنها سيصبح لها وضع آخر، غير الوضع الذي كانت عليه قبل ذلك، وسيؤسّس عليها المسلم حلولًا للنوازل العارضة، باعتبارها هديًا دينيًّا، ممّا يكسب تلك الحلول الصبغة الدينية الشاملة، ويرفع من كفاءتها في تحقيق المصلحة.

 

وفي نطاق هذا الدور أيضًا، يتمكن المسلم من أن يستخدم المعارف العقلية في الترجيح بين الاحتمالات المختلفة، في مدلولات النصوص الظنّية، فإن في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها، مما يتعلق بحياة الإنسان من الحقائق التي اكتشفها العقل، ما يعين على تحديد وجه المراد الإلهي، من بين احتمالات عدّة، فيسدد الاجتهاد في الفهم، ويفضي تبعًا لذلك إلى ترشيد التدين بتحكيم الأفهام السديدة في شؤون الحياة (15).

 

ومن البين أن المعارف العقلية التي تستخدم في فهم المراد الإلهي، ينبغي أن تكون على درجة من الوثوق، تنأى بها عن الفرضيات الاحتمالية الضعيفة، فإن إقحام هذه الفرضيات الضعيفة في تحديد المراد الإلهي يسيء إلى النص الديني، حينما يظهر خطؤها، وقد عدّت مدلولات له، كما أنه يجرّ إرهاقًا وحرجًا في شؤون الحياة، لما تصبح جارية على أساسها، وهذا ما يدعو إلى الاقتصاد في استخدام المعارف العقلية في فهم الدين، بما يضمن إصابة الحق في أقصى درجات الإمكان، وهذا موقف وسط بين تطرفين:

 

أحدهما: المبالغة في التحوّط بالنأي عن تأويل النص الديني بالمعرفة العقلية النسبية.

 

وثانيهما: الإسراف في بسط مدلولاته على الكم الكبير من هذه المعرفة، الذي يختلط فيه اليقيني بالظني بالموهوم، إسرافًا يوقع في التعسّف، وتحريف الكلم عن مراده، وممّا قاله الإمام ابن عاشور في هذا المعنى: لا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب- تعالى وتقدّس- لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة، ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكلّ ما كان من الحقيقة في علم من العلوم، وكانت الآية لها اعتلاق بذلك، فالحقيقة العلمية مرادة بقدر ما بلغت إليه أفهام البشر، وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات، ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عمّا يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل (16).

 

وقد تحرّج بعض العلماء من المسلمين، من هذا الدّور للمعرفة العقلية، في فهم النص الديني، بحسبان أن يفضي إلى أن يصبح الخالفون أعمق فهمًا له، وأوسع إدراكًا من السلف الصالح، بما فيهم الصحابة والتابعون.

 

وقد ساور هذا الحرج الإمام الشاطبي فقال في حديث عن القرآن الكريم: إنّما يصحّ في مسلك الإفهام والفهم ما يكون عامًا لجميع العرب، فلا يُتكلّف فيه فوق ما يقدرون عليه (17)، ثم علّل هذا الرّأي في معرض نقده، لمن فسر القرآن على ضوء العلوم العقلية، فقال: إنّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المُدعى.... وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا (18).

 

وليس لهذا التحرج من سبب وجيه، فالسلف الصالح كانوا أعلم بالنص الديني في هديه العام، وبحسب ظروفهم الثقافية، وذلك كاف في إثبات أفضليتهم، ولكنهم هم أنفسهم كانوا يقولون: إن القرآن لا تنقضي عجائبه، تقريرًا منهم لكونه ينفسح أفقه، وتتسع مدلولاته، بحسب تطور الإنسان في ثقافته، فيكشف فيه باطراد الحقائق، التي تهديه في مستجدات أوضاع حياته، وذلك مظهر من مظاهر إعجازه، فإن الحق الذي يشتمل عليه: ينبلج للناس شيئًا فشيئًا، انبلاج أضواء الفجر، على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم (19).

 

(ب) تقدير المقاصــــد:

إن الدين كله مبني على مقاصد، تنتظم جميع أحكامه وإرشاداته، وهذه المقاصد هي مصالح، تحقق للإنسان الخير والسعادة.

 

ومن هذه المصالح، ما هو منصوص عليه على وجه الوضوح: إمّا نصًّا يشمل به كل أفعال الإنسان، بحيث يكون أصلًا لها تنبني عليه جميعًا، مثل رفع الضرر في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (20)، وإمّا نصًّا يجمع به نوعًا معيّنًا من الأفعال، مثل رفع الغرر في قوله صلى الله عليه وسلم: لرجل يخادع في البيوع: «إذا بايعت فقل لا خلابة» (21)، فهو مصلحة، تتحقق في نوع المعاوضات من الأفعال.

 

ومنها ما هو غير منصوص عليه، ولكنه مبثوث في واقع تصرفات الدين، في صياغته للأحكام، بحيث يمكن أن يستنتج بالتتبع، والاستقراء، مثل مصلحة رواج الطعام في الأسواق، وتيسير تناوله، المستنتج من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والنهي عن الاحتكار فيه (22).

 

وهذان النّوعان من المصالح تفهم من خلال النصوص، إمّا بصفة مباشرة، أو بصفة الاستنتاج، لتُجرى عليها الأفعال المتعلقة بها، تعلقًا مباشرًا أو ضمنيًّا، فتحصيل أفهامها، يكون باجتهاد ميسّر، لما هي منضبطة به، من بيانات نصّية واضحة، أو قريبة من الوضوح. وللعلماء اجتهادات مفيدة، في بيان المسالك، التي يتوصّل منها إلى فهم هذه المصالح المقصودة للشارع، تقوم في أغلبها على قواعد الفهم النصّي، أو قواعد الاستقراء، لما ورد منها ضمنيًّا في ثنايا الأحكام الشرعية (23).

 

وما يعرض للإنسان من أوضاع جديدة في حياته، لم يبينها نصّ ديني، ينبغي على المسلم أن يجتهد في إجرائها على صيغة دينية، يشتقّها بالنظر العقلي، المستنير بهداية الشّرع، وهذه الصيغة الدينية، تنضبط بمقصد شرعي، يمثّل المصلحة المرجو تحقيقها للإنسان، بإجراء الأوضاع الجديدة عليها، ولئن كانت المقاصد العامّة للدين، التي تحدد المسار العام للحياة، معلومة من التنصيص الصريح عليها، فإن المصالح الجزئية المندرجة في تلك المقاصد العامة، والتي ينبغي أن تؤسّس عليها الصيغ الدينية المتوصل إليها بالاجتهاد، تبقى هي أيضًا متوقفًا تحصيلها، على اجتهاد عقلي، يسبق أو يقارن الاجتهاد في صياغة الحلّ الديني، ومثاله الموضح أنه يعرض للمسلمين اليوم وضع اقتصادي، يستدعي وفرة في الإنتاج، لتغطية المتطلبات المستحدثة للاستهلاك، وللاستقلال الغذائي، خاصة عن القوى العالمية المهيمنة المستغلة، ووفرة الإنتاج قد تستدعي مساهمة المرأة في المجهود الإنتاجي بشكل مكثّف، إلا أنّ هذه المساهمة قد تكون لها نتائج سلبية في مجال الأسرة والدّور التربوي فيها، وفي مجال الأخلاق العامة أيضًا، يفشوّ الاختلاط، والتفلت من ضوابط الرّشد، فما هو الحلّ الديني لهذا الوضع المستجد؟ إنّ المجتهد مدعوّ لأن يتحرّى المقصد الشرعي، الذي تتحقق به مصلحة الأمة، موازنة بين التربية الأسرية، وبين وفرة الإنتاج، وبين حفظ الأخلاق العامّة، فإذا ما انضبطت تلك المصلحة، صاغ على أساسها حلًا دينيًّا لهذا الوضع الجديد.

 

وموضوع بحثنا في هذا الصدد هو: كيف يمكن تحرّي تلك المصلحة، التي هي مقصد ديني، ليس عليه تنصيص مباشر؟ وما هو دور المعرفة العقلية في ذلك؟

 

لا شك أنّ للمعارف العقلية دورًا مهمًّا في تعيين المصلحة، التي هي مقصد الدين، في مثل هذه الأوضاع الطارئة على حياة المسلمين، فما هي مبرّرات هذا الدّور؟ وما هي ضوابطه؟ وما هي التحدّيات المتربّصة به في الوضع الرّاهن للمسلمين؟

 

إنّ الأحكام الدينية أغلبها كلية عامة، وصور الحياة الإنسانية جزئية متغيرة، وهي كلها ينبغي أن تجري على ما فيه مصلحة للإنسان مقصودة للشرع.

 

ولعل عصر المسلمين هذا أكثر عصورهم تقلّبًا في صور الأوضاع المستجدة، ليس لتسارع نسق الحياة الإنسانية عمومًا فحسب، بل لأن ما عهدوه من صور للحياة، ظلّ زمنًا طويلًا في طور ركود، فلم يشهد التغيّر المتئد الموزون، فلما انفتحوا على الوضع الحضاري لهذا العهد، حدث في حياتهم ما يشبه الطفرة الانقلابية، التي عصفت بوضع معهود، وأفضت إلى وضع جديد متداخل الصور، معقد العناصر، وهم مدعوّون فيه إلى أن يؤسسوه على مقاصد للشريعة، يملكون أصولها الكلية، وعليهم أن يفرّعوا منها فروعًا تكون أساسًا لحلولهم الدينية لهذا الوضع الجديد.

 

ومن الحصيلة البشرية من العلوم والمعارف، ما فيه عون على تبين ما فيه مصلحة، من أوضاع المسلمين المستجدة؛ فعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم الإنسانية، تشتمل على قوانين هي أقرب إلى الحقيقة العلمية الموضوعية، وهو ما يرشحها لأن تكون وسيلة صالحة لتحديد ما فيه خير الإنسان ونفعه، ومن ثمة فإنها تصبح أداة مهمة للمسلم في اجتهاده، لتقدير مصلحة الإنسان في خضم الأوضاع التي انقلبت إليها حياته اليوم، وإذا عدنا إلى المثال الآنف الذّكر؛ فإن علم النفس التربوي، بيّن ما ينشأ من مضار، تتعلق بالأطفال، حينما يفقدون حدب الأمومة، في طور نشأتهم الأولى.

 

وعلم الاجتماع بين نتائج الاختلاط الأهوج، وأثره على الترابط الأسري، والاجتماعي عمومًا.

 

وعلم الاقتصاد بين أهمية تضافر المجهود الوطني على الإنتاج، وأثر العطالة في انخرام التوازن بين الإنتاج والاستهلاك.

 

ومن كل هذه المعطيات العقلية من العلوم الإنسانية، يمكن بل يتعيّن على المجتهد، أن يتخذ سبيلًا لفهم المقصد الشرعي، الذي يبني عليه صيغة دينية لحل هذه المشكلة.

 

وإذا كان في هذه المعارف العقلية عون، في تقدير مقاصد الشارع، فإنها أيضًا محفوفة بالعديد من المزالق، التي قد تحيد بالباحث عن مقصد الشريعة، عن جادّة الحقّ، وتوقعه في تقدير مصالح موهومة، ليست من الدين في شيء، ولعل من أبرز تلك المزالق أن العلوم العقلية، بما فيها العلوم الإنسانية، هي في يومنا هذا إنتاج لثقافة غربية، ذات منطلقات إيديولوجية مادية في أغلبها، وهي إيديولوجية سيكون لها أثر، إن كبيرًا أو صغيرًا، في النتائج العلمية في المجال الإنساني، باعتبار أن هذا المجال ليست الحقائق فيه منضبطة موضوعيًّا مثل مجال العلوم الصحيحة، وبذلك يكون اعتماد العلوم الإنسانية في تقدير مقاصد الشريعة على علاتها، غير خلي من مخاطر الوقوع في خطأ التقدير.

 

وغير خفي ما يبدو اليوم، من مظاهر تتصل بهذا المزلق، نراها فيما ينادي به بعضهم، من اعتماد آراء ونظريات في العلوم الإنسانية في تقدير مصلحة الإنسان، باعتبارها مقاصد شرعية.

 

ومثال ذلك، ما يتوهمه بعضهم من أن الرّبا ينشط الحركة الاقتصادية، وينهض بها، أو أن الاختلاط غير الرشيد، يهذّب من الخلق، ويخفف من شره الميل الجنسي، فيقدّر أن هاتين النتيجتين الاقتصادية والنفسية التربوية تحددان مصلحة الإنسان، وبالتالي مقصد الشريعة في هذين الأمرين (24).

 

وفي هذا النطاق تندرج كثير من الدّعوات، التي تلهث وراء مذاهب وآراء تتزيّا بزيّ العلم، وتريد أن تجر الأفهام الدينية إليها، في تعسف جليّ ليس فيه للاجتهاد النّزيه أثر.

 

ولهذا السّبب فإنه من الضروري، أن يكون الدّور، الذي تقوم به المعارف العقلية، في تقدير المصلحة، محاط بضوابط تعصم من الوقوع في الفهم الخاطئ، لمقصد الدين.

 

ولعل من أهم تلك الضوابط التقيد بالإطار العام للمقاصد الشرعية، المنصوص عليها بجلاء، أو المستخلصة بالاستقراء والتتبع، واتخاذها مصدرًا تحاكم إليه كل الأفعال المتعلقة بمقاصد جزئية، تختصّ بأوضاع جزئية، فذلك يضمن عصمة من تبنّي مصالح قد تكون مخالفته لصريح النصوص، وتبدو في ظاهرها مصالح، وهي في الحقيقة موهومة.

 

ومن أهم الضوابط أيضًا: التحري في المعارف العقلية، والتمييز بين ما هو منها حقيقة يقينية، أو ظنية راجحة، وبين ما هو نظريات احتمالية مظنونة، وكذلك تنقيتها مما هو ناشئ عن دافع إيديولوجي، يحيد بها عن الموضوعية العلمية، وبذلك لا يُعتمد في تقدير المصلحة، التي هي مقصد الشرع، إلا المعارف العقلية الصحيحة المورثة لليقين أو للظّن الرّاجح.

 

4- دور الواقع في فهم الدّين:

نعني بالواقع: ما تجري عليه حياة الناس، في مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجدّ فيها من نوازل وأحداث، فهل للواقع بهذا المفهوم دور في فهم الدين، الذي جاءت به نصوص الوحي، وإن كان ذلك، فما هي طبيعة هذا الدّور؟

 

يمكن أن نلاحظ مبدئيًا أن الدين خطاب معبّر عن حقائق أزلية، تتسع لتعالج أوضاع واقعية متغيرة، ولكنها لا تتبدل في ذاتها بتبدّل الواقع.

 

ومن جهة أخرى فإن واقع الحياة الإنسانية، هو واقع مخلوط فيه الحقّ بالباطل، بل لعل الباطل فيه أغلب، فكيف يمكن أن يكون له مدخل في فهم الدين، الذي حقائقه أزلية؟

 

إن فهم الدين من نصوصه، يتم بالنظر العقلي، والعقل الإنساني مهما كان مبنيًّا على المنطق الصحيح في أصل فطرته، فإنه يتأثر في بنائه التكميلي بواقع الحياة وأوضاعها؛ إذ هو ينمو ويتكامل في خضم ذلك الواقع، وهو ما يمثل تدخلًا غير مباشر للواقع في الفهم عامة، بما في ذلك فهم الدين، إلا أن هذا التدخل لا تنشأ منه حتمية الخطأ، إذا كان الواقع منحرفًا، بل إنه يكون تبعًا في الرشد وعدمه للمنهج العام، الذي يتبعه العقل في التفكير.

 

والبيان الديني للأحكام، بيان ظنّي في كثير منه، كما مرّ بيانه، يحتمل وجوهًا متعددة من المعاني، يمكن أن يؤخذ ببعضها دون الآخر، بحسب المرجحات، وبعض المراد الإلهي ليس مناطًا لبيان مباشر، وإنما هو موكول لبيانات كلّية، موجّهة للمقاصد العامة، بحيث ينفسح فيها المجال أكثر من النوع السابق، لطرح الاحتمالات المختلفة، والموازنة بينها، بما يفضي إلى اعتماد أحدها.

 

وما يجري به واقع الحياة من نظم وأعراف، منه ما هو مبني على أصول من الحقّ، فتتحقق به المصلحة والنفع، وذلك بناء على حكم صائب للعقل، أو تجربة عملية أفضت إلى ثبوت النفع والنجاعة، وذلك كله معهود في حياة المجتمعات المختلفة.

 

وهذه المعطيات الثلاثة: صلة الواقع بالبناء العقلي، وظنية بعض البيانات الدينية، وحقّانية بعض مظاهر الواقع، هي التي يمكن أن ينبني عليها تقدير الدور، الذي يكون للواقع في فهم الدين تحديدًا لطبيعته ومجاله؛ وتنبيهًا لما يحفّه من إمكانات الانزلاق، التي تخرج به عن جادة الرّشد وتوقعه في الانحراف.

 

ويتبين مبدئيًّا أن فهم الدين لا يمكن أن يتم بصفة تجريدية، مفصولة عن خضم الواقع الحياتي، بل يتم من خلال حوار متفاعل بين عناصر ثلاثة: النص الديني، والعقل المدرك، ونوازل الواقع وأحداثه.

 

وفي هذا التفاعل يتأمل العقل في مدلولات النص الديني، من حيث هي أحكام مقصدها تقويم واقع الحياة وترشيده، فيكون إذًا لهذا الواقع، الذي هو موضوع التقويم، اعتبار في عملية الفهم على النحو الذي سنبيّنه تاليًا.

 

ويضيق هذا التفاعل إلى درجة قصوى، في فهم النصوص القطعية، في ورودها ودلالتها؛ ذلك أنّ هذه النصوص هي في عمومها موجهة لحياة الإنسان المطلقة، التي لا يُنظر فيها إلى الظرف الزماني والمكاني، باعتبارها المحور الثابت، الذي تدور عليه الحياة، فيحفظ سمتها الأصلي المتقوّم بالحق الدائم، ويحفظ بالتالي ثبات الحقيقة الدينية واستمراريتها.

 

ومن أمثلة هذه النصوص، التي يضيق فيها دور الواقع في فهمها، ما يتعلق بالعقيدة، والعبادات، وأحكام الحدود، فهي نصوص قطعية في أغلبها تحمل معاني يقينية ثابتة، متعالية عن أحداث الواقع المتغيرة من حيث الفهم.

 

ويتّسع دور الواقع في فهم النصوص الظنية، وفي استنباط الأحكام، ممّا لا نصّ فيه حيث يكون للعقل مجال للترجيح بين الاحتمالات، أو الاجتهاد وفقًا للمقاصد العامة، وحينئذ فإنه يمكن أن يستخدم مجريات الواقع، في ذلك الترجيح والاجتهاد، على أنحاء مختلفة.

 

فقد يكون في واقع حياة الناس عادات وأعراف، جارية على أصول من الحق، تظهر ثمرتها الخيّرة في تحقيق المنافع المختلفة لهم. وقد تكون هذه العادات والأعراف متعلقة بما كان مناطًا لبيان نصّي ظنّي، وحينئذ فإنها تكون مرجّحًا قويًّا، ليُصرف ذلك البيان إلى الاحتمال الذي ينطبق عليها، فيصبح ذلك الاحتمال هو المفهوم الديني، الذي يحصله العقل، على أنه مراد إلهي، تحكيمًا في ذلك للواقع الذي جرت به تلك العادات والأعراف (25).

 

وقد يكون من العادات والأعراف، ما يتحقق به الخير، في جانب من جوانب الحياة، ممّا لم يرد فيه نص ديني، سوى الإرشاد المقصدي العام، وحينئذ فإن العقل في اجتهاده بحثًا عن المراد الإلهي، في كل شأن من شؤون الحياة، يمكن أن يحكم بأن ما أثبت العرف صلاحه هو المراد الإلهي، ويتبنّاه على أنه حكم ديني، ينضاف إلى المنظومة الدينية المتكاملة، التي تغطي أوجه الحياة كلها، ويكون بذلك للواقع دور في فهم الدين، باعتماد العرف الصالح، على أنه جزء من الدين، حينما لا يرد فيه نصّ، ولا يكون معارضًا لنصّ (26).

 

وقد يكون في واقع الحياة أوضاع فاسدة، وعادات زائغة عن الحق، مفضية إلى المفسدة، وتكون تلك الأوضاع والعادات مما يتعلق بها نص ديني بحكم ظنّي، وحينئذ فإنه يمكن للعقل أن يوازن بين احتمالات النص الظني، فيختار منها ما يكون فيه علاج أبين، لما فسد من الأوضاع والعادات، فيصبح ذلك الاحتمال محمولًا على أنه هو الدين، ويعتمد مرادًا إلهيًّا، بناء على تلك المشاهد، من الواقع (27).

 

وهذا الدور الذي يؤديه الواقع في فهم الدين، أسس عليه بعض أئمة الفقه، وعلماء الأصول، قواعد تشريعية، اعتمدوها في تقرير أحكام الدين، والاجتهاد في معرفة المراد الإلهي.

 

ومن أهم تلك القواعد ما عرف في الأدب الأصولي، بأدلّة المصلحة المرسلة، والعرف، والاستصحاب، ومعناها أن يتخذ مصدرًا للتشريع كلٌّ من الوقائع التي لم يشهد لها دليل معيّن من الشرع، بالاعتبار والإلغاء وفيها تحقيقٌ لمصلحة، والعادات التي يعتادها الناس في حياتهم غير مخالفة لحكم شرعي، وما يفعله الناس مطلقًا في تصرفاتهم، ممّا لم يرد فيه منع (28)، بحيث يتخذ العقل بالاجتهاد من هذه المشاهد الواقعة أحكامًا دينية، معبّرة عن المراد الإلهي، فتصبح تلك المصالح والأعراف والتصرفات العفو، مادّة لصياغة فهم ديني، يكون جزءًا من دين الله المتوجّب على النّاس تطبيقه.

 

وقد شهد هذا الدور، الذي يمكن أن يؤديه الواقع في فهم الدين، تجاذبًا بين طرفين متناقضين، في تاريخ الفكر الإسلامي قديمه وحديثه، فقد كان أكثر الأئمة الأوائل يولون أهمية لهذا الواقع، في فهم الدين، وخاصة منهم الإمام مالك، الذي توسّع فيه توسعًا مشهورًا، ولكن بمرور الزمن، وتناقص الثراء، في الواقع الحضاري للمسلمين، والميل إلى التمسّك بالفقه النظري، الذي هو أقل عرضة للاختلاف، تناقص الاهتمام بأصول الواقع في فهم الدين، وأسقط من الاعتبار في هذا المجال، في جملة ما أصاب الفكر الديني عامة، من بُعدٍ عن التفاعل مع واقع الحياة الإسلامية.

 

وفي مقابل ذلك، ظهرت منذ القديم نزعة تنحو منحى المبالغة في دور الواقع في فهم الدين، حتى اتخذ من أعرافه وأوضاعه، التي يظن أن فيها مصلحة للناس سلطان على الأحكام الشرعية المنصوص عليها. فأصبح الدين يفهم مما يجري به الواقع، وإن يكن مخالفًا لما جاءت به نصوص الوحي. وممّن وقع في هذه المبالغة في تحكيم الواقع في فهم الدين، أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الطّوفي (ت 716هـ) الذي قال بتقديم المصلحة الواقعية، على النص في المعاملات، سواء كان ظنيّا أو قطعيًّا (29).

 

وفي هذا العهد نشطت هذه النزعة المحكمة للواقع، يدفعها الانهزام الحضاري، الذي يعيشه المسلمون، وينبهرون فيه بالنمط الواقعي للحضارة الغربية، مما جعل بعض الباحثين يقيمون من هذا النمط في وجوه مختلفة أصلًا لتقرير أحكام الدين، صرفًا للنظر عن النصوص اليقينية الدلالة والثبوت، باعتبار أن ما تحمله من الأحكام محدود بالزمان والمكان، خاضع لاعتبارات الظروف التي نزل فيها، فيكون معناه قد انقضى بانقضاء زمنه وأسباب نزوله؛ ذلك ما يراه حسن حنفي، من بين روّاد هذه الوجهة حيث يقول: أصول التراث نفســه- وهو الوحي- مبنية على الواقع، وتغيرت وتكيفت طبقًا له، وأصول التشريع كلها تعقيل للواقع، وتنظير له، ولكن الواقع القديم تخطته الشريعة، وجاوزه التشريع، إلى واقع أكثر تقدمًا، في حين أن واقعنا الحالي الذي يُقام التجديد عليه، لم يتخطه أي تشريع بعد، وتظلّ كل التشريعات أقل مما يحتاجه، ويظل هو متطلبًا لأكثر مما تعطيه التشريعات (30).

 

وبين هذين التطرفين، اللذين يقطع أولهما صلة الاجتهاد في فهم الدين بالواقع، ويهدر ثانيها ثوابت الدين بمجريات الأحداث، يبقى الموقف الوسط هو الموقف المشروع، متمثلًا في الاستنارة بواقع الحياة الإنسانية، في تأسيس الأفهام الدينية تحديدًا للمراد من مظنون النص، واستحداثًا لما ليس فيه نص، فيصير بالاجتهاد حكمًا دينيًّا تقيّدًا في كلّ ذلك بالضوابط المقصدية العامة، التي تضمن وحدة الدين وثباته واستمراريته على السمت الصحيح.

 

المصدر: موقع إسلام ويب