حقيقة التَّذْكِيرُ
حقيقة التذكير:
1 - أن تقول لغيرك قولًا يذكر به ما كان جاهلًا أو عنه ناسيًا أو غافلًا، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول فيسمى تذكيرًا مجازًا وتوسعًا، ويجمع الثلاثة قولك: عباد الله الصالحون يذكِّرون الخلق بالخالق بأقوالهم وأعمالهم وسمتهم.
2 - وحاجة العباد إلى هذا التذكير أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه وألزمه، فإن سعادتهم الحقيقية في هذه الحياة بإنارة عقولهم، وزكاة نفوسهم واستقامة سلوكهم، وفي الحياة الأخرى بنعيم الجنان وحلول الرضوان، إنما هي بإيمانهم بربِّهم وشكرهم له. وأن دلائل وجوده ووحدانيته وقيومته وآثار فضله وإحسانه ورحمته ماثلة في الكون بادية للعيان، داعية إلى الشكر هادية إلى الإيمان، لكن العقول كثيراً ما تكون مغلولة بقيود أهوائها، محجوبة بحجب غفلتها، فتعمى عن تلك الدلائل والآثار، فتكفر كفر جحود وعناد، أو كفر عصيان وطغيان. ويكون تورطها في كبائر الذنوب وصغائرها على مقدار تلك الحجب وتلك القيود. وليس لغير من عصم الله انفكاك أو خروج منها، كلها. فهم إذن بأشد الحاجة إلى تذكيرهم بتلك الدلائل وتلك الآثار ليحصلوا أسباب سعادتهم بالإيمان والشكر.
3 - قد علم الله حاجة عباده إلى التذكير، فاصطفى منهم رجالاً أنعم عليهم بكمال الفكرة ووقاية العصمة، وأرسلهم لتذكير العباد {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (1)}، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (2)}.
فالأنبياء والمرسلون- عليهم الصلاة والسلام- هم أولو هذا المقام الجليل، مقام التذكير. ثم من بعدهم ورثتهم من العلماء العاملين.
4 - قد كان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- على سنَّة إخوانه من الأنبياء والمرسلين- عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد متمثلاً أمر ربه- تعالى- له بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (3)}.
إذ السيطرة لا تكون على القلوب والإيمان- وهو من أعمال القلب- لا يكون بالإكراه وإنما يكون بذكر الحجج والأدلة، وكذلك كانت سنة المرسلين في الدعوة إلى الله كما قصَّها علينا القرآن الكريم في كثير من السور والآيات.
كان- صلى الله عليه وآله وسلم- يذكرهم بقوله وعمله وهديه وسمته، وكان ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه، وقد قالت عائشة الصديقة- رضوان الله عليها- لما سئلت عن خلقه- والخلق هو الملكة النفسية التي تصدر عنها الأعمال- قالت: كان خلقه القرآن، فكان تذكيره كله بآيات القرآن: يتلوها ويبينها بالبيان القولي والبيان العملي متمثلاً في ذلك كله أمر ربِّه تعالى بقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (1)}، فالقرآن وبيانه القولي والعلمي من سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- بهما يكون تذكير العباد ودعوتهم لله رب العالمين، ومن حاد في التذكير عنها ضل وأضل وكان ما يضر أكثر مما ينفع إن كان هنالك من نفع.
5 - كان- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يفتأ مذكرًا المؤمنين والكافرين، والله يهدي من يشاء ويوفق من يريد. وقد أمر بالتذكير مطلقاً في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (2)}.
وكانت سيرته العملية في التذكير هي العمل بهذا الإطلاق، فما كان يخص قوماً دون قوم في الدعوة والتذكير، فكانت هاته السنة العملية دليلاً على أن ما جاء على صورة التقييد في بعض الآيات ليس المراد منه التقييد، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (3)}.
فالشرط الصوري هو للاستبعاد، أي استبعاد نفع الذكرى فيهم.
ولا يزال من أساليب العربية في لسان التخاطب الدارج بيننا قول الناس لبعضهم بعضًا: "كلمه في كذا إذا نفع فيه الكلام" استبعاد لنفعه فيه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (1)}.
فليس ذكر المفعول للتقييد وإنما هو للتنبيه على أنه هو الذي ينتفع بالتذكير نظير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
6 - ولحاجة العباد للتذكير ومنزلته من الدين شرعه الله للمسلمين شرعًا موقتًا في خطب الجمع والأعياد، وشرعًا مرسلًا موكولًا للمذكرين على ما يرونه من نشاط الناس وحاجتهم، كما كان يتخول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- الناس بالموعظة وطلبه طلبًا عامًا من جميع المؤمنين في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (2)}، في صفة المؤمنين العاملين.
المصدر: آثار ابن باديس (1/ 128).