logo

تجارب قرائية


بتاريخ : الخميس ، 23 صفر ، 1440 الموافق 01 نوفمبر 2018
بقلم : د. عبد الكريم بكار
تجارب قرائية

بين يديكم ملخص لمادة ثرية، قدمها الدكتور عبد الكريم بكار بنادي أدبي جدة، تحت عنوان: (تجربتي مع القراءة).

لماذا القراءة؟

- الحديث عن القراءة حديث ممتع؛ لأن القراءة هي حياة الروح، ويكفي أنها تعقد بينك وبين عظماء الرجال في كل العصور، تبني بينك وبينهم الجسور، وتعقد بينك وبينهم الصلات الفكرية والروحية والأخلاقية.

- القراءة هي التي تدلنا على الخبرات المكتنزة في التاريخ، وهي التي تجعلنا نبصر الواقع، وهي التي تساعدنا على أن نستشرف المستقبل.

- القراءة هي النور حين يخيم الظلام، وهي المخرج حين تدخل الأشياء في المسالك الضيقة، وحين تتأزم الأمور؛ لأن الذي ثبت أن العقل بدون معرفة هو هباء، هو لا شيء؛ بل هو مثل الرحى التي نديرها دون أن نضع فيها شيئًا من الحبوب؛ لو أدرنا رحًى مائة عام دون أن نضع فيها نوعًا من الحبوب فلن نحصل على أي دقيق، ويا ليت الأمر يكون كذلك؛ بل هو أسوأ؛ فالعقل حين يشتغل من غير معرفة لا يقول أنا لا أعرف ثم يتوقف، وإنما يصدر الأوهام والقرارات الخاطئة والتخيلات والتهيئات والظنون.

ولذلك عقول الجهلة ليست حيادية، وإنما هي تقوم بدور الأعشاب الضارة التي تنبت حول الأشجار وحول النباتات.

حين نتكلم عن العقول؛ فهناك عقلان:

1- عقل وهبي؛ وهو مجموعة الإمكانات الأولية التي زودنا بها الباري جل وعلا.

2- عقل مكتسب؛ وهو تمامًا ما نسميه بالثقافة، والثقافة هي العقل الثاني للأمة.

الثقافة ثقافتان:

1- ثقافة شعبية؛ وهي ما نتعلمه من خلال العيش في مجتمع (عادات، تقاليد، نظم حياة...).

2- ثقافة عليا؛ وهي التي تعتمد على الأفكار والمفاهيم والتحليل، وفهم العلاقات والجذور، وفهم سنن الله في الخلق، الثقافة التي يرتكز عليها النقد الذاتي، ويرتكز عليها النقد الغيري... إلخ.

هذه الثقافة العليا مصدرها الأساس هو (الكتاب).

- ولذلك حين تتراجع القراءة عند الناس تكون قد أفسحت المجال للثقافة الشعبية، والثقافة الشعبية عمياء!؛ لأنها تتكون خارج دائرة الوعي؛ ولذلك أهمية الكتاب في حياة الناس أهمية بالغة.

رؤية للواقع:

- من خلال رؤيتي للواقع أرى أن هناك تحولًا في علاقتنا مع القراءة، نلحظه في السنوات الأخيرة، وهو تحول سلبي للأسف!!

في السابق، قبل عشرين سنة، كان السؤال الذي يطرأ على ألسنة الناس: لماذا لا نقرأ؟، لكن اليوم للأسف تحول السؤال إلى سؤال إنكاري: ولماذا نقرأ؟! أي أن هناك قناعة في اللاوعي بعدم أهمية القراءة طالما نحن نقرأ في وسائل التواصل وفي الصحف وفي هذه الوسائل!

- ما نجده على تويتر والفيس ينمي وعيًا، وقد ينمي أيضًا أخطاءً، فبدلًا من أن يكون هناك تنمية للوعي يصير هناك تشويش للوعي؛ لذلك يبقى الكِتاب هو الأداة الرئيسية في تحصيل المعرفة وبناء الوعي.

- بل لو تأملنا في الغرب، الذي يصنع التقنية ويصدرها إلينا، نجده ليس مهووسًا ولا مشغولًا بها بمقدار ما نحن مشغولون بها!!

بداياتي:

- في بداية تفتحي على القراءة والكتاب كنت أقرأ في كل شيء، وربما هذه التجربة هي تجربة الجميع!؛ لأن من سنن الله في الخلق ومن سننه في طبائع الأشياء أن الإنسان لا يهتدي إلى هدفه الذهبي، وإلى أداته الذهبية، وإلى تخصصه الذهبي، وإلى شغفه الذهبي إلا بعد وقت، وبعد تجربة، وصواب وخطأ، حتى ينتهي في النهاية إلى الشيء الذي ينبغي أن يفعله، وأن يتوجه له.

- وبعد ذلك أدركت أن العلم بحر لا ساحل له، وبالتالي لو بقي الإنسان يقرأ في كل شيء سيظل مشتتًا بلا هدف ولا تخصص، نعم، هذه الجوانب (عقيدة، فقه، أدب، تاريخ...) هي مهمة في البدايات للتكوين الأولي، تكوين الثقافة العامة التي يرتكز عليها الإنسان في مستقبل حياته؛ لأنه ثبت أن انغلاق أي أهل تخصص على تخصصهم هو شيء ضار للغاية؛ بل إن التخصًصات يجب أن تنفتح على بعضها بعضًا، وخاصة التخصصات القريبة من بعضها؛ كالعلوم الشرعية، والعلوم الإنسانية.

- لا بد في نهاية المطاف من التركيز، وأنا أنصح طالب العلم أن يقسم وقته إلى ثلاثة أقسام:

1- قسم يخصصه لعلوم الشريعة، وهذا ممكن أن يعطيه 20% من وقته.

2- قسم يخصصه للمعرفة العامة (الثقافة العامة)، وهذا أيضًا يعطيه 20%.

3- الباقي 60% يركزه على التخصص، أو تخصصين متلاحمين قريبين من بعضهما، لماذا؟ لأن التقدم المعرفي والتقدم الحضاري مدين لهؤلاء الأكاديميين وهؤلاء المتخصصين، الذين يعملون بصمت في الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث.

- وحتى يسهم الشخص في تقدم الحضارة وتقدم المعرفة يصبح بعد ذلك أستاذًا فيه، وبعد مدة من التركيز يصبح مرجعًا، ويصبح حجة، ويكون لقوله اعتبار وتأثير؛ لأن قوله ناضج.

أما ما يحصل من بعض الشباب حيث يريد أن يقرأ في كل شيء، فهذا لن يحصل في النهاية على أي شيء!!

أقسام القراء:

نستطيع تقسيم القراء إلى أربعة أقسام:

1- قراء يقرءون من أجل التسلية، وهناك دلائل تقول أن هذا القسم يمثل في حدود الـ 70% من القراء عمومًا في بلادنا وفي أوروبا.

- طبعًا، ابتداءً، القراءة في حد ذاتها أمر ليس محببًا، لكن إذا تمكنت من الشخص يصاب معها الإنسان بحالة الوله والعشق.

- بينما القراءة الممتازة هي لا تعدل المزاج؛ بل هي التي تحتاج للمزاج حتى تستفيد من الكتاب الذي بين يديك.

2-  قراء يقرءون لأجل المعرفة، والاستزادة في المعلومات حول موضوع ما، وهؤلاء ربما يمثلون 10 أو 15% من القراء.

- وهذه الفئة أرقى درجة من القسم الأول، لكن نقول: حتى القراءة من أجل التسلية هو أمر جيد؛ لأنها لا تخلو من فائدة، وتبعد الشخص عن التمحور حول ذاته، وتخلصه من الفراغ، وربما تصبح مدخلًا أو مقدمة لنوع أرقى وأفضل من قراءة التسلية.

3- قراء يقرءون من أجل تحسين قاعدة الفهم لديهم، أو من أجل توسيع قاعدة الفهم لديهم، من أجل تحسين المحاكمة العقلية، وهؤلاء يمثلون ربما 1% أو نصف في المائة.

4- القراء الكُتَّاب، يقرءون من أجل الإضافة إلى المعرفة، وتنمية المعرفة، هو يقرأ من أجل كتابة بحث، من أجل المشاركة في ندوة، من أجل تأليف كتاب، من أجل إلقاء خطبة أو كلمة أو محاضرة.

- وهذا القسم الرابع هو أفضل القراء، لماذا؟ لأن الذي ثبت أن الكتابة تنظم الطرح، وتوجد نوعًا من المنطق الخاص لدى الإنسان.

- لذا أنا أقول: لا مفكرون بدون إنتاج فكري، لماذا؟ لأن مجرد القراءة بدون كتابة يبقى المنطق ناقصًا، وتبقى الموضوعية لدى الإنسان ناقصة، ويبقى تحليله أيضًا ناقصًا.

- فهؤلاء القراء هم أفضل القراء؛ لأنهم يعرفون ماذا يريدون أولًا، ثم يعرفون أي الكتب التي تحقق ما يريدون، ثم يخلصون من الكتاب لما يريدونه منه.

- ولذلك قراءته عميقة ومركزة وموجهة؛ لأنه يعرف بالضبط ماذا يريد من هذا الكتاب الذي بين يديه، وأيضًا هو لاحترافه الكتابة فإنه يعرف الكتاب ذوي الشأن في التخصص الذي يكتب فيه.

- من خلال تجربتي في القراءة تبين لي أنه ليس كل الكُتاب الجيدين يكتبون كتبًا جيدة، وليس جميع الكتب الممتازة يكتبها كتاب مشهورون.

- فقد يكتب الكاتب الممتاز كتابًا غير ممتاز، وقد تجد كتابًا ممتازًا لكاتب مغمور.

- وهذا يهمنا في أننا حين نختار كتابًا لنقرأه فإن (اسم المؤلف) هو واحد من المؤشرات، وليس كل المؤشرات.

- القضية ليست في قيمة الكتاب، فقيمة كتاب ربما تساوي قيمة ربع وجبة في المطعم، لكن القضية في الوقت الذي نمضيه مع الكتاب، يوم ويومين وشهر وشهرين، ويكون هذا الكتاب للأسف كتاب عقيم.

- ولذلك وصيتي أن نهتم جدًا قبل شراء أي كتاب؛ نقرأ المقدمة، نقرأ الخاتمة، نطلع على الفهرس، نقرأ صفحات من داخل الكتاب، لماذا هذا؟ لأنه ليس كل الكتب الجيدة تناسب جميع القراء، دائمًا الكاتب وهو يكتب يحدد شريحة محددة فيخاطبها بهذا الكتاب، ودورك أن تعرف هل أنت من هذه الشريحة التي يستهدفها الكاتب أم لا؟

- ومن هنا قالوا: «غذاء الكبار سم للصغار».

- كثير من الشباب يستنصحني: ماذا أقرأ؟ وغالبًا ما يكون جوابي هو عدم النصح، لماذا؟ لأنه لا يمكن لأحد أن يحدد حاجاتك المعرفية غيرك أنت.

- لما الواحد يريد أن يتخصص ويريد أن يقرأ في علم من العلوم فالنصيحة أن يستشير، يستشير من؟ يستشير المتخصص في ذلك الفن أو المجال، ثم بعد القراءة في ذلك المجال ستدرك بعض الثغرات في ذلك العلم، أو تستهويك جوانب معينة، فتشعر بعد قراءتك لعدة كتب في ذلك المجال أنها مغفلة، أو أنها لم تخدم بما يكفي، أو تشعر أنها مهمة للزمان الذي نحن فيه، فتركز عليها من خلال القراءة أكثر فيها، ثم بعد القراءة عن تلك القضية الدقيقة بإمكانك أن تكتب مقالًا أو تؤلف كتابًا فيها.

- إذن دائمًا الدخول لعلمٍ ما يكون من خلال أخذ فكرة عامة عن العلم، ثم ندخل لبعض تشعباته لنرى ما الذي يستحق من هذه التشعبات العناية والقراءة والاهتمام الخاص.

- دائمًا في القراءة خذوا ما يقوله كل كاتب على أنه وجهة نظر، وعلى أنه رأي شخصي.

- في البيئات الجاهلة يأخذ الناس كل ما يسمعونه على أنه حقائق قطعية، ولما نأخذ ما يقوله الكتاب على أنه وجهة نظر، إذن لنقرأ في القضية الواحدة أكثر من وجهة نظر.

- لذلك الفقه المقارن، وعلم الاجتماع المقارن، وعلم النفس المقارن، هذه العلوم أساسية في تكوين البنية العقلية الصحيحة، بحيث نرى الأشياء ليس من وجهة نظر واحدة، وإنما نراها من زوايا مختلفة، ووجهات نظر مختلفة.

كيف أعرف نفسي أنني قارئ نهم أو غير نهم؟

- من خلال تجربتي الشخصية أقول: تحديد صفحات محددة في اليوم للقراءة هذا ليس جيدًا، لماذا؟ لأنك ستصبح طول النهار تحت ضغط إنهاء تلك الصفحات، فلا تضع نفسك تحت ضغط الصفحات.

الأفضل أن يكون لدينا معياران في هذا:

1- معيار الساعات، وهذا معيار جيد، لكن هذا المعيار يحتاج إلى معيار آخر.

2- وهو: الحصيلة المعرفية التي ستحصل عليها من وراء جلوس أربع ساعات على المكتب.

وهذا يدفعني للحديث عن القراءة التحليلية (القراءة النوعية).

- أنا لا أعتبر قراءة الإنسان وهو مستلق على سريره لا أعتبرها قراءة، ولا أعتبر القراءة في كتاب بدون ورقة وقلم تسجل من خلالهما الأفكار والفوائد الجديدة التي تقرأها؛ أنا لا أعتبر هذه قراءة.

- القراءة الجيدة هي التي تحرث من الكتاب حرثًا.

- وأنا أذكر أنني لما ألفت كتابي (مدخل إلى التنمية المتكاملة) كتبت بخط يدي مسودات 1500 صفحة قبل أن أكتب نص الكتاب.

- لا يصبح ما نقرؤه ملكًا لنا إلا إذا فكرنا فيه؛ أي عندما نقرأ في موضوع علينا بعد قراءته أن نفكر في الرسالة التي يريد أن يرسلها الكاتب، نفكر في الأشياء الجديدة.

- التفكير فيما نقرأ يمكننا من أن ندخل تلك المعارف إلى أنساقنا ونظمنا المعرفية والعقلية؛ ولذا بعضهم ينصح أن يفكر القارئ ثلث ساعة مقابل قراءة ثلثي ساعة.

قد يكون التفكير أن تأتي بمثال، أو أن يكون التفكير من خلال تصويب ما ذكره المؤلف.

- ولذا القضية ليس (كم صفحة قرأنا)؛ بل هو في حجم التغيير الذي دخل على عقولنا، وعلى أفهامنا، وعلى محاكماتنا العقلية، وعلى تحليلنا للأشياء.

- أنا أعرف من القراء مَن يقرءون، وربما تغيب عنه عشر سنوات وتلتقي به، لكن للأسف لا تجد أي تطور أحدث عليه، لا في طرحه، ولا في تفكيره، ولا في تحليله، والسبب إما نوعية ما يقرأ، أو الطريقة التي كان يقرأ بها.

- المعرفة الجيدة هي التي تولد معرفة، وتنتج تساؤلات، وتحثك على المزيد من البحث عن المعرفة.

- الكتاب الجيد ليس هو الذي يقول لك نعم ولا؛ بل هو الذي يفتح أمامك احتمالات وطرق مختلفة للرؤية.

- الكتاب الجيد أشبه بنفق ينبغي أن يحفر من طرفين حتى نلتقي في وسط النفق، المؤلف قام بدوره في التأليف، ويبقى دور القارئ.

- الكتاب الجيد حتى ينجز ينبغي أن يقرؤه قارئ جيد.

- القارئ الجيد يجب أن يتعرف على خلفية الكتاب؛ كمعرفته هل المؤلف من أهل الاختصاص في هذا الفن أم لا؟ وهل سبق له التأليف في هذا الفن أم لا؟ وهذا كله من حفر النفق الذي ينبغي أن يكون.

- في ظل الدفق المعرفي الهائل صار عمر الكتاب قصيرًا، إما بسبب نوعية ما يعالجه الكتاب من موضوع، أو بسبب تغير ذائقة الجيل من فترة لأخرى.

- وهذا يجعلنا نستعين بآخر الطبعات من الكتب التي يتكرر طبعها، في حال إن كان المؤلف قد أجرى عليها إضافات أو تنقيحات وتصويبات.

- كذلك هذا يحفزنا ألا نكدس الكتب في مكتباتنا؛ بل إذا قرأت كتابًا وغلب على ظنك أنك 90% لن تعود إليه فتصدق به، أو اهده لغيرك ممن يحتاجه ويستفيد منه.

- هناك أفكار ميتة، وهناك أفكار مميتة؛ الفكرة الميتة مثل الدواء التي انتهت مدته، وهناك أفكار هي أشبه بجرعة السم (أفكار قاتلة).

- فلنحذر من الكُتَّاب الذين يكتبون ويقدمون لنا الأفكار الميتة، والكتاب الذين يقدمون لنا الأفكار المميتة.

- مثل الكتاب الذين كل حديثهم عن مبدأ المؤامرة، وأن تدهورنا بسبب تلك المؤامرات، هذه واحدة من الأفكار المميتة التي تجعلنا في حكم المتفرج، وتجعلنا لا نتحمل مسئوليتنا، ولا نتحمل قراراتنا، وتخلد لدينا الفكر الجبري، أنه ليس بأيدينا أن نفعل شيئًا؛ لأن الأمور بأيدي غيرنا!!

- بعضهم ينظر إلى التخطيط وكأنه خادش للتوكل على الله، وكأنك تتحدث حديث الواثق من كل شيء.

- لذا لنحذر من الأفكار الميتة والأفكار المميتة القاتلة، لا سيما تلك الأفكار التي تحجبنا عن سبل النهضة، وتحجبنا عن رؤية الواقع، وتحجبنا عن استشراف المستقبل، وتحجبنا عن رؤية أدوائنا الحقيقية.

تم بحمد الله

____________

موقع: صيد الفوائد