logo

من الفرد إلى الأمة.. رؤية الإسلام في النظم المجتمعية


بتاريخ : الجمعة ، 7 محرّم ، 1441 الموافق 06 سبتمبر 2019
بقلم : د. محمد العبدة
من الفرد إلى الأمة.. رؤية الإسلام في النظم المجتمعية

يتساءل بعض الناس وربما يستغرب: لماذا لم يُفصّل القرآن الكريم في أمور السياسة والحُكم والاقتصاد، مع أهمية هذه الأمور لحياة الإنسان، وفصّلَ في شأن العبادات والأسرة وما يحيط بها، وفي شأن الأخلاق الفردية وقصص الأنبياء مع أقوامهم، وربما تمادى الأمر بهؤلاء المستغربين فقالوا: ليس في الإسلام نظرية للحكم، فالشورى لم تذكر إلا في آيتين، وآيات عامة عن العدل وأداء الأمانات والحكم بما أنزل الله...، وكأنهم يرددون ما قاله طه حسين قديمًا من أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيمًا مجملًا أو مفصلًا.

ويقال لهؤلاء: هل يترك القرآن المشكلة الكبرى للإنسان دون وضع القواعد الأساسية التي تهديه إلى سواء السبيل؟

ثم ليبني عليها الإنسان ما يحتاجه في حياته الدنيا؟ وهل يناسب جوهر الدين أن يفصّل للناس نظم الاقتصاد والسياسة تفصيلًا مبرمًا، لا يملكون فيه الاجتهاد في التفاصيل حسب الزمان والمكان؟ إنما يناسب الدين أن يبين للناس المبادئ العامة التي يستقر عليها كل نظام صالح يأتي في المستقبل «والرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن بعض هذه الأسس وترك بعضًا للفكر الإنساني؛ لئلا يضيق وينحصر ويخمد إذا أتاه بالتفاصيل كلها، ولا يوحي الله إلى رسول من رسله بكل شئون الحياة مفصلة»(1)، وهذه فضيلة للإسلام وميزة له.

فرض الإسلام أن يقوم الحكم على أساس الشورى، وأن يقوم التشريع على أساس الكتاب والسنة، ولا ضير بعد ذلك أن يجتهد المسلمون في طريقة اختيار الحاكم أو العمل بدستور مكتوب أو غير مكتوب، والقرآن الكريم منهج حياة يهدي إلى الرشد، وليس كتابًا متخصصًا في السياسة أو الاقتصاد، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]؛ «أي تبيانًا لأصول كل شيء، وجعل البيان والتفصيل منوطًا بأسباب الحوادث»(2).

إن ما يسأل عنه هؤلاء الناس جاء مفصلًا ولكن بطريقة القرآن الخاصة، كان التركيز على تأسيس الفرد ليكون جزءًا من البنيان المرصوص، ولتحريره من الضلالات التي تعرقل طريقة تفكيره، فإن إصلاح عقل الإنسان هو أساس إصلاح أعماله، وبهذا نفهم دعوة القرآن للنظر والتعقل والعلم والاعتبار، وأن يتحمل الفرد المسئولية الكاملة عن أعماله وتصرفاته، ولأن تأسيس إسلامية الحكم دون إسلامية الفرد هو بناء على غير أساس، كيف يقوم سلطان الحكم دون أن تترسخ القيم والمبادئ العليا في نفسية الفرد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135].

الفرد هنا مطلوب منه العمل، ولا يغني عنه مال أو نسب أو قبيلة أو أرض، وهذا الإصلاح للفرد سيئول حتمًا إلى صلاح المجتمع، فإن من المشاكل الكبرى في السياسة، كما يقول الفيلسوف البريطاني (رسل)، هي: «كيف نجمع بين المبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبين التلاحم الاجتماعي الضروري للبقاء»(3).

إن في تقدير هذا الكتاب الذي أنزله الله سبحانه أن هذه الأمة هي أمة صاحبة رسالة، وهذا يتطلب الفرد الذي يتأسس إيمانيًا وأخلاقيًا وعقليًا، قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:67].

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، والآيات التي تعنى بالتوجيهات التربوية البناءة كثيرة جدًا، وقد زود القرآن المسلم من البداية بنظرة إلى الكون قائمة على فهم السنن الربانية، وأن كل ما في هذا الكون مسخر للإنسان ليتمتع به، ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربية؛ بل بطرائق تبرز مسئوليته في عمارة هذه الأرض بالعمل الصالح.

إن الحديث المتكرر عن اليوم الآخر لا بد أن يلجم النفس؛ حتى لا تقع في الآثام والشرور، وهو أيضًا حماية للإنسان من محنة العدم، وعندما لا يكون الأمر كذلك فإن هذا الإنسان سيُسَخر العلم لاختراع أفظع الوسائل لتنفيذ أقبح المآسي والجرائم، وعندما يتأسس الإنسان على القرآن والسنة وعلى مكارم الأخلاق؛ وذلك ليبتعد عن الأعمال التي توصله لأسفل سافلين، أليس هذا مما يساعد على الاستقرار والأمن والأعمال المفيدة، وتكون عاقبة ذلك خيرًا؛، إذ لا تغني القوانين والزواجر غناء الاقتناع الداخلي الملتزم بما يرضي الله سبحانه.

هذا الاستقرار يجعل الفرد المسلم قادرًا على أن يرسم الخطط، ويساعد على إيجاد الإدارة المناسبة، فالقضية ليست شعارات سياسية؛ بل هي واقع أساسي، وهو تحرير الإنسان من المعوقات التي تحيط به ليتخذ الخيارات الصحيحة، وإذا بقي جاهلًا فسرعان ما يستسلم للآخرين، ويخسر حريته، ويذهب اختياره للدجالين المنافقين.

كانت صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله أسبق من صلته بالمجتمع الذي سيكلف بدعوته وإصلاحه، وقد بدأ المسلمون بفتح آفاق أنفسهم قبل أن يفتحوا العالم، وقبل أن يتجردوا لذلك العمل الضخم، كانت الصلة بالله وإقامة العبادات المطلوبة بمثابة الجذور العميقة التي أنبتت وأثمرت تلك الحضارة في دمشق وبغداد وقرطبة؛ وإذا لم ينشأ الفرد هذه التنشئة الإيمانية الأخلاقية فكيف سيكون حاله إذا وصل إلى الحكم وأعجبه التسلط على الناس، وأعجبته الأوامر والنواهي.

إن تأسيس الفرد المسلم ليس منفصلًا عن تأسيس الأسرة وتأسيس المجتمع، فالكل يسير في خطوط متشابكة منسجمة يساعد بعضها بعضًا، وهو تأسيس يخدم الجانب السياسي والدولة.

كان اهتمام القرآن بالأسرة اهتمامًا بالغًا؛ ولذلك أحاطها بكل الضمانات الأخلاقية والتشريعية، وتحدث عن الزواج، والطلاق، والحجاب، وصلة الأرحام، وتوزيع الميراث، وبر الوالدين، والاستئذان في الدخول على البيوت...، كما في سور البقرة والنساء والنور والطلاق وغيرها؛ ذلك لأن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الوحيدة القائمة ما بين الفرد والأمة، وكل هذه الأهمية للأسرة والعناية بها لأن تماسكها واستقرارها هو استقرار للمجتمع.

كان مجتمع المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مكتمل الشروط لمجتمع صالح بالنظر لصلاح الفرد وصلاح الأسرة، يقول الرئيس علي عزت بيجوفيتش رحمه الله: «الرجل والمرأة هما الخلية الأساسية للعالم والحياة، وإن أقل تغيير لهذه المادة الحياتية سيقود إلى الانقلاب العام»(4).

ومن الملاحظ أن الحضارة الغربية تعاني من تدهور الأسرة الذي يسبب المشاكل الاجتماعية والسياسية، «طرأ تحول جذري في كل أرجاء العالمين الشيوعي والغربي(5)، وتعاني الأسرة اليوم من الوهن العام الذي أصاب المجتمع، وبصرف النظر عن تحديد من يمثل العلة ومن يمثل المعلول في ثنائي الأسرة والحضارة، فإن من المقطوع به أن قدر الحضارة والأسرة هو أن تنهضا معًا أو تسقطا معًا»(6).

إنه من الطبيعي أن من فسدت فطرته فلا يقدم الخير لأهله أو أسرته، فأي خير يرجى منه للبعداء «وهل يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط للجامعة الكبرى (الأمة)»(7)، وكما أن الغلو في حقوق الفرد، كما تؤكد الليبرالية الغربية، أدى إلى تفتت الأسرة، وكذلك كان نفي الفردية في الأنظمة الجماعية يعني تجريد الإنسان من إنسانيته، وجاء الإسلام وسطًا في ذلك.

وعندما أعطى الإسلام حقوقًا ثابتة في مجال الإرث، مثلًا، كان هذا متطابقًا مع التكوين الجسدي والنفسي للإنسان، وفي توزيع الإرث يستفيد أكبر عدد ممكن من الأقارب حتى لا يكون الجو مسمومًا بين هؤلاء، وحتى لا تتفكك روابط الرحمة والإيثار، وهذا هو التعليل لبقاء الكيان الاجتماعي للأمة المسلمة متماسكًا رغم ما حل به من نكبات، فالمجتمع الروماني مثلًا انهار أمام ضربات برابرة الشمال، أما عالم الإسلام فلم تتفكك وحدة مجتمعه تحت ضربات المغول؛ ذلك لأن الخلية (الأسرة) التي يتكون منها المجتمع الإسلامي هي خلية قوية متماسكة تستعصي على الفساد.

إن المجتمع الذي ستبنى عليه الدولة يجب أن يكون مجتمعًا قويًا، الدولة لا تتشكل ولا تدار بمعزل عن حركة المجتمع وقواه وتنظيماته الأهلية، المجتمع السياسي هو (الكل) والدولة هي البنيان الفوقي المؤسس على بِنَى المجتمع التحتية؛ ولذلك تكررت الآيات التي تفضح وتدين الذين يضادون إصلاح هذا المجتمع {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.

ومن الملاحظ أن التشريعات في المدينة أَوْلت جانب المجتمع وتماسكه الاهتمام الكبير، فبعد فرض الزكاة والحديث عن الصدقات جاء الحديث عن المال والثروة، والتركيز على الضمان الاجتماعي وحقوق الفقراء؛ لأن عدم التوازن في هذه الأمور التي تمس حياة الإنسان هو أحد الأسباب الكبرى لمشاكل البشر، وقد قامت دول وانهارت دول بسبب هذا الأمر (الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية).

ركز القرآن الكريم على اللُّحمة الاجتماعية، ونعى التفرق والاختلاف الذي يمزق الأمة، ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وأقام الإسلام مفهوم الأمة على أساس الدين، وليس على أساس العرق أو اللون أو الحدود الجغرافية، هذا المفهوم هو أداة لإعادة تشكيل العالم وإصلاح العالم، والأمة هي الأصل ثم تجيء الدولة تنظيمًا إداريًا.

وإن دعوة جزء من الأمة ليكون من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لهو من أعظم الوسائل لحماية المجتمع وإصلاحه قبل أن تتدخل الدولة بقوتها وأجهزتها، وهي مسئولية كبيرة حتى لا يترك الانحراف يزداد ويتفشى، وحتى يكون هذا المجتمع نقيًا طلب من أفراده أن يتحلوا بالعدل حتى مع أعدائهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].

في هذا المجتمع يتوفر للفرد قدر من العناية بكل الوسائل المادية والمعنوية، كما جاء في الحديث: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»، في هذا المجتمع يقال لأفراده: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177]؛ أي أن هذه العبادة لا بد أن تنتج آثارها الاجتماعية، فالتضامن وإقامة العدل والوفاء بالعهود من أعظم العبادات، وأن إنفاق المال والصبر في البأساء والضراء هو الذي يجعل صاحبه مستحقًا لأن يوصف بالصدق والتقوى.

إن نصوص القرآن والسنة تؤكدان على مصلحة الجماعة، فإذا استوت على سوق تنشئة الفرد وتقوية المجتمع عندئذ يصبح أمر الحكم والدولة هو النتيجة التي لا بد منها للمحافظة على ذلك الأساس؛ لأننا لا نستطيع أن نرمم الدولة إذا كانت الأساسات واهية ضعيفة، وقد بث القرآن الكريم في آياته قيم العدل، والتشنيع على الظلم والظالمين الذين يجب ألا يتولوا أمور الناس {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26].

وتحدث القرآن عن قيم الشورى والبعد عن الاستبداد وثقافة الاستبداد، وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم للشورى، رغم مخالفتها لرأيه، في موضوع الخروج إلى أُحد لمقابلة جموع قريش أو البقاء في المدينة والدفاع عنها، وتنزلت الآيات بعد أحد لتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: أدِم على مشاورتك لهم رغم ما حصل {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] ووصفت حالة المسلمين في أحوالهم العادية بأن أمرهم شورى بينهم، وليس أيسر من تطبيق الشورى إذا كان الإنسان مؤمنًا حقًا، يعرف أنه يتعامل مع الله في كل ما يصدر عنه من تصرف.

وضع القرآن الأسس الكبرى والأصول الجامعة ليستنبط منها العلماء في كل زمان طريقًا صحيحًا للعمل، يقول الإمام الجويني: «معظم مسائل الإمامة عريَة من مسالك القطع، خليّة من مدارك اليقين»؛ أي أنها اجتهادية وليس فيها نصوص قطعية، وقد تكونت الأمة في الإسلام قبل السلطة التنفيذية، وكانت الشريعة هي الحَكَم بين المسلمين قبل شكل الحكم، وجاءت الآيات كأسس للدولة وللسياسة: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النساء:59].

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]

دعا القرآن إلى مقاومة الظلم وعدم القبول بحالة الاستضعاف {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].

لقد طاف القرآن بالمسلمين خلال العصور لينظروا في أحوال الأمم ونتائج أعمالها، ويفكروا في أسباب تطورها وتقدمها أو أسباب تأخرها وتراجعها، وتحدث القرآن طويلًا عن السنن الإلهية في تاريخ البشر، وسنته تعالى في هلاك الأمم إذا بطرت معيشتها وعاثت فسادًا في الأرض {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].

ومن السنن أن التمكين في الأرض يكون لأهل الصلاح والإصلاح {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}ْ [الأنبياء:105]، وذكر سبحانه سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} أليس هذا مما يخدم السياسة؛ بل هو من قواعد السياسة؛ لأن هذه السنة تطهر الأرض من الفاسدين، كما كان تطهير المجتمع الإسلامي من الداخل له الأولوية، فإن أول سورة نزلت في المدينة (البقرة) تحدثت عن المنافقين واليهود، وتتنزل آخر سورة (براءة) وتتحدث عن المنافقين واليهود، أليس هذا حماية للدولة من الغدر ونكث العهود ونقض المواثيق.

أشار القرآن إلى العلاقات الدولية، إلى الإمبراطوريات المجاورة للمسلمين، وأن الصراع بينهما هو لصالح المسلمين {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2-3]، وهذا يعني أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا بمنأى عن هذا التدافع والصراع، ولا بد أن يتصرفوا التصرف الصحيح حيال ذلك، وفي العلاقات الدولية أوجب القرآن على المسلمين الوفاء بعهودهم {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، ومن صفات المؤمنين {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}.

أصّلَ القرآن القواعد الأساسية للاقتصاد والثروة، وترك التفاصيل في المعاملات ومعايش الناس لاجتهاد العلماء والخبراء، حسب ما يكون فيه تيسير على الناس في أمور دنياهم.

قال تعالى عن أهمية المال لمجموع الأمة: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، ونهى القرآن عن أكل أموال الناس بالباطل وحرّم الربا وأحل الطيبات وحرّم الخبائث، ودعا المسلمين إلى توثيق العقود، وهذا فيه حفظ للمال، وابتعاد عن الخصومات، وهو أمر بالغ التحضر والمدنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].

وفي سورة الحشر أمر الله سبحانه بتوزيع الفيء على مستحقيه، وليدور المال ولا يجتمع بيد أفراد محدودين: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7]، والإسلام لا يشعر بالحرج أمام نظم اقتصادية رأسمالية أو اشتراكية؛ لأن الأسس التي وضعها تختلف عن أسس الرأسمالية أو الاشتراكية، وليس هو الدين الذي يضطر لتغيير منهجه مع كل نظام اقتصادي يطرأ على البشرية أو كل نظام سياسي.

وأما تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للقواعد والأسس التي جاء بها القرآن لتنتظم بها أمور المسلمين، تطبيقًا عمليًا في واقع المدينة النبوية وواقع الجزيرة العربية آنئذ، وما قام به الخلفاء الراشدون من متابعة لسنته صلى الله عليه وسلم، واجتهاد في أمور حدثت مع توسع الدولة الإسلامية، كل هذا له حديث آخر، أعان الله على ذلك.

____________________

1- محمود محمد شاكر، جمهرة المقالات (2/ 673).

2- الطاهر بن عاشور، النظام الاجتماعي في الإسلام، ص187.

3- برتراند رَسْل، مختارات من أفضل ما كتب، ص101.

4- هروبي إلى الحرية، ص49.

5- كتب هذا قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.

6- إسماعيل الفاروقي، التوحيد، ص283.

7- الشيخ محمد عبده، الأعمال الكاملة (3/ 159).