logo

الكهولة الفكرية


بتاريخ : الاثنين ، 26 رمضان ، 1436 الموافق 13 يوليو 2015
بقلم : م. محمد صالح البدراني
الكهولة الفكرية

إن النفس لا يمر عليها الزمن ولكنها تكبر بالمعرفة والتجربة، وهي في حركة دائمة مع المنظومة العقلية للإنسان، وما يكبر ويهرم بفعل الزمن هو الجسد، فيكون في السلسلة المعروفة لمراحل العمر التي مضت، فإذا ما اعتركت التجربة الإنسان لتراه يزن الأمور بروية من منطلق التجربة لا يعد هرمًا، لكنه أصبح “مترويًا” يعقل الواقع ويقيسه على إمكانياته المتاحة. قد يضيق صدره من معلومة مكررة يمجها أو خطأ من الآخر أضحى في تقديره لا يستوجب الخطأ أو تكرار المعلومة في استقبالها سيان عرضها؛ لكن ذلك هو في ذاته التوازن بين: العمر الزمني والعمر المعلوماتي المستفاد منه والمعقول بالمنظومة العقلية.

لكن ترى ما هي تلك الكهولة الفكرية؟

إن هنالك كهولة غير متوازنة، تظهر أعراضها عند الشباب، وأعني هنا من هم في نمو وحيوية بدنية، تتمثل في استعجالهم الاستقرار على فكرة ما دون عقلها فعلًا، والسعي لمطابقتها ومعادلة الزمن. فهنالك من تراه يصر على أنه امتلك الحقيقة ويفرض وجهة نظره، وهي وجهة نظر، على محيطه لا يقبل لها نقاشًا ويبرر صدقها جدلًا.

وهنالك من تضيق نفسه إذا ما خالفه الناس، فتراه يبرز الغضب قبل الحلم الذي ربما يدعو إليه، أو لعله يرغب باحتضان الدنيا مبكرًا وكأنه يقطع أشواط الحياة، تغالبه حاجاته وغرائزه فلا يجد منها انفلاتًا بل مستأنسًا لقيدها دون أي شعور باستعبادها له أو انعكاسها على تناقض بين السلوك وبين الكلام الذي يطرحه، وهنا يبرر لنفسه قبل غيرها حتى تضيق نفسه من كثرة ترداد التبرير لمخالفاته فتتبلد ويصبح الإحساس بالتناقض معدومًا أو على الأقل معتادًا وكأن ثقل الخطأ كذبابة مزعجة يبعدها عنه دون أن ينتبه بحركة لا إرادية تغادر الذاكرة لحظة فعلها، فكان الأثر أن الخطأ لم يعد خطأ.

وهنالك شباب يمتلك المعلوماتية لكنه مستجيب للواقع بأمنياته وسلوكه، فيبحث عن الرفاهية ويستجيب لشح النفس وهو ينادي ربما بحقوق المستضعفين وإعانة الفقراء والمحتاجين بيد أنه لا يفعل ما يوازن كلامه، وربما وضع مسئولًا عن معونات لهؤلاء أو حتى زكاة فيبرر لنفسه الفائدة منها على اعتبار أنه من القائمين عليها.

إنها كهولة بل عجز الفكر عن الانتظام في الواقع عمليًا وتناقض بين سلوك الحامل والمحمول.

والسؤال كيف حصل هذا؟

إنها أساليب التربية الموروثة مع وراثة القهر والسرية في سلطة القمع والخوف من التصريح ربما ينعكس على الحركة ذاتها بشكل عكسي، فترى الإيماءة عند بعض الشعوب تعاكس قوله، لاحظت أن الهنود مثلًا حين يريد أن يوافقك على شيء يهز رأسه بإشارة تدل على الرفض والعكس صحيح، لا أدري إن كان هذا عامًا أو فيمن عرفتهم منهم.

في التربية هنالك أمورًا تضخ للأطفال كمعلومات جاهزة ونقل لتجربة قد لا يفسرها ناقلها، وقد يمنع عن السؤال متعلمها، طبعًا هذا نتيجة الخوف من الإيضاح بسبب القهر والظلم من الحكام والنظم، فكانت “افعل ولا تفعل” ومجموعة من قوانين الممنوعات والعيب، دون لماذا ممنوع أو لماذا عيب! والنتيجة أن المعلوماتية تتراكم دون إعقالها فتكون في الممر والطريق لا تعارض الداخل من الأفكار المكتسبة حديثًا, ولا تعارض الأمنيات والرغبات، لكنها تستحضر في المجالس والحوارات أو الجدل، فترى البعض يشرح لك تفاصيل لا تجد منها ما له انعكاس على سلوكه، وأن هنالك من يعيبه على هذا ولا يرى في نفسه ذات مرضه.

لذا نرى أمنيات البعض المتشكلة من الموروث أيضًا مما تعارف عليه الناس أو من متطلبات المدنية، تخالف ما يتكلمون به؛ فالمعلومة التي لا تعقلها المنظومة العقلية هي معلومة ثابتة في حقيقتها ميتة في تأثيرها، لنصل إلى مرحلة العجز لفاعلية الفكر الإيجابي أمام القياس والحكم أو بمعنى آخر الوفاق والانطباق والمعالجة للجنوح والتباين بين الرغبات والأفكار التي بدأ الشباب يعقلونها فعلًا ويفهمونها، لكن عليهم أن يجتازوا محنة السلوك نتيجة التفاوت بين ما عقلوه وبين ما وضعه مجتمعهم من معاني وطموحات قياسية، كمعنى الغنى هو كثرة المال، ومعنى الناس الكبار هم أصحاب النفوذ، وأن أمنية الشابة ليس تكوين عائلة ربانية وإنما بيت أو فيلا وسيارة فارهة وشاب وسيم. وبين هذه الثلاث لا يوجد شرط لعقل أو دين مثلًا ولا شهامة أو مروءة، ولا علم أو معرفة، ويبحث الشاب ليس عن فتاة ذات دين أو خلق مثلًا وإنما عن فتاة صغيرة وجميلة وربما لديها بعد مادي، وفي كلا الحالين المستوى الاجتماعي المماثل المشوه هو الآخر.

إن كهولة الفكر عند الشباب بالذات هي العجز السابق لما يحملون أمام ما يسلكون وهي مسألة أخلاقية ولا أريد التعميم بهذا، لكني حاولت إيضاح ظاهرة لا أبالغ إن قلت واسعة هي من أسباب ومغذيات منظومة تنمية التخلف.

وعذرًا يا أمتي الثائرة على الظلم، هل أنت تثورين على الظلم؟ أم تثورين لأنك تظلمي؟! فالثورة على الظلم أني لن أمارسه, أما الثورة لأني أظلم فلا يعني أبدًا أني لن أكون من الظالمين. هذه وتلك هي مشكلة الهوية فلا يكون الإصلاح بشخصية ضبابية إن وصفت بأفضل حضورها.

نحن مخلوق علمه الله البيان، ممتحنة إرادته، لذا فالإرادة هي التي ينبغي أن تنظم وفق مكارم الأخلاق، ولن تواجه نفس الإنسان حينها الكهولة حتى عند عجز الجسد، وستكون النهضة تحصيل حاصل والتاريخ تحدث عن هذا فعلًا.

ــــــــــــ

المصدر: موقع "يقظة فكر".