الدعاة وتصفية القلوب
من أهم وأعظم أدوات المسلمين عامة والدعاة خاصة، في سيرهم إلى الله عز وجل، هو تصفية قلوبهم، وسلامة صدورهم، النقاء والسلامة من الآفات والغوائل والدخائل التي تعيق السير، وتهدر الجهد، وتحبط العمل، فالقلب هو الملك، والجوارح هي الأعضاء التي تعمل بأمر الملك، فهي جنوده التي تسير وَفق ما يوجهها، فتسالم من يسالم، وتعادي من يعادي، وتقدم وتحجم حسب رأي القلب الملك.
لذلك كانت عناية الإسلام بسلامة الصدور ونقاء القلوب عناية كبيرة، تحتل أولوية قصوى في هذا الدين، فأقرب القلوب إلى الله عز وجل أنقاها وأصفاها وأسلمها من الأكدار والأخلاط والآفات، والسباق إلى مرضاة الله عز وجل هو في حقيقته سباق للقلوب، وتفاضل الناس عند الله عز وجل هو في الأساس بما وقر في قلوبهم من إيمان وتقوى، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]، وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:47-48]، وقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، وقال: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام:125].
فالدعاة أحوج الناس إلى سلامة الصدور وتنقية القلوب؛ لأنهم أكثر الناس احتكاكًا بالجماهير، والتعامل اليومي مع أنماط متباينة من البشر، منهم السوي ومنهم الغوي، ومنهم الجاهل ومنهم المتجاهل، ومنهم من يريد الإجابة التي توافق هواه، ومنهم من يريد الإجابة على تساؤلات لا إجابة عليها، ومنهم الغارق في معاصيه وشهواته، ومنهم المتلبس بشبهات ضالة، إلى آخر القائمة الطويلة من صفات وطبائع البشر ومستجداتهم التي تتغير كل يوم.
التعامل اليومي مع كل هؤلاء يورث الداعية كثيرًا من الآفات والدخائل.
كل هذه النماذج يقابلهم الداعية ويتعامل معهم ويحتك بهم، ويدخل معهم في صولات وجولات، وهذه المهمة الشاقة تحتاج من الداعية أن يكون سليم الصدر، نقي القلب، قوي الاحتمال، حافظًا لجنابه وجنانه من التلوث بكل هذه الأخلاط؛ حتى لا تمتد إليه عدوى هذه الآفات والأمراض، فيكون مثل الطبيب الذي يصف الداء ويكتب الدواء، وهو صريع نفس الأدواء.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع لنا تعريفًا فريدًا للقلب النقي، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عن أفضل الناس، فقال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان»، قالوا: «صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟»، قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد» [صحيح ابن ماجه]؛ أي أن القلب النقي التقي هو القلب الذي خلا من الغل والحسد وإرادة الشر من الحقد والضغائن.
فالحقد في اللغة هو الاحتباس والمنع، والضغائن هي مفرد الضغن، وله عدة معان، منها الميل والجور والانطواء على الحقد، والامتناع عن إعطاء كل ما في النفس، واحتباس الخير، أما الوغر فهو شدة توقد الحر أو الاحتراق من الغيظ، أو امتلاء الصدر بالغيظ.
والغل هو جماع هذه الآفات كلها، فهو بمعنى الغش والحقد والحسد والضغن؛ لذلك قال الله في محكم التنزيل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الأعراف:47]، وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
هذه الآفات إذا دخلت قلب الداعية فإنها تفقده حيويته ومادة حياته، تجعله ضجرًا نزِقًا، لا يكاد يصبر على مدعو أو داعية، سريع الغضب، وسريع الانفعال، وسريع الوقوع في الأخطاء وإساءة الظنون.
هذه الآفات إذا دخلت قلب الداعية فإنه يفتر عن البذل والعطاء، ويكون منعه أكثر من عطائه، وإساءته أكثر من إحسانه، وقد ضرب الله عز وجل لهذا مثلًا في كتابه العزيز، فقال سبحانه: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، فقد قال المفسرون أن تفسير قوله: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يحتمل وجهين؛ أحدهما: يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم، والثاني: تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين عاقبة سلامة الصدر، وأهميته في حياة الداعية مهما كان قدره، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر» [سنن الترمذي].
فانظر إلى حاجة سيد الدعاة نفسه إلى سلامة الصدر، الرسول الذي هو أكمل الخلق وأفضل البشر، الذي استخلص من صدره حظ الشيطان كما صح ذلك في حديث شق الصدر، ومع ذلك كره أن ينقل إليه كلام عن أصحابه، فيتغير صدره تجاههم، فكيف بمن هو دونه من الدعاة؟
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم المسلمين للعبادة التي تذهب آفات الصدور فقال: «ألَا أدلكم على ما يُذهِب وَغَرَ الصدر صيامُ ثلاثة أيام من كل شهر» [الطبراني].
وكما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سلامة الصدر من الغش والغل والحقد وإرادة السوء من أعظم أسباب دخول الجنة، كما في حديث الأنصاري الذي لم يكن له كبير عمل سوى أنه كان يبيت وصدره سليمًا من الغش والغل لأحد من المسلمين، وقال عنه رسول الله أنه من أهل الجنة، بيّن أيضًا أن الغل والحقد والتباغض من أهم أسباب حجب المغفرة، ففي الحديث: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» [صحيح مسلم].
وحتى يكون الداعية سليم الصدر، نقي القلب، كان لا بد له من أسباب يتعاطاها، ومسالك يسلكها؛ حتى يصل إلى هذه الدرجة العالية الراقية من الدين، من أهمها: الإخلاص؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نضَّرَ اللهُ عبدًا سمعَ مقالتي، فحفِظَها ووعاها وأدَّاها، فرُبَّ حامل فقه غيرِ فقيهٍ ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه»، وقال: «ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب امرئ مسلم؛ إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» [الألباني، تخريج مشكاة المصابيح (223)].
ومنها الرضا بما قسمه الله عز وجل، والتسليم لقضائه سبحانه وتعالى، والنظر إلى من هو أقل في الدنيا وأعلى في الدين، ومنها دوام الذكر، خاصة القرآن الكريم، الذي قال عنه المولى جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
ومنها تذكر الحساب والعقاب والمثول بين يدي الله عز وجل؛ حيث لا شفيع للعبد سوى عمله وقلبه.
ومنها الدعاء، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وعزيمة الرشد، وشكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا» [صحيح ابن حبان].
ومنها الصدقة، فهي تطهر القلب، وتزكي النفس، كما قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].
ومنها حسن الظن بالمسلمين، وحمل الكلام على أحسن المحامل، وأفضل المسالك.
ومنها إفشاء السلام، والتبسم في وجه الإخوان.
ومنها؛ بل من أهمها، ترك السؤال عما لا يعني، وترك تتبع أحوال الناس، وفي الحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» [صحيح ابن حبان]، وهذا أبو دجانة رضي الله عنه في مرض موته يتهلل وجهه، فقيل له: «ما لوجهك يتهلل؟»، فقال: «ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين؛ أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا».
ومنها محبة الخير للمسلمين، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره، أو لأخيه، ما يحب لنفسه» [صحيح مسلم].
أما عن أهم أسباب ولوج الدخائل والآفات؛ مثل الغل والحقد والضغائن، إلى الصدور والقلوب والعياذ بالله:
(1) الحرمان، فالله عز وجل قد يحرم العبد من نعمة من نعم الدنيا؛ مال أو صحة أو ولد، لحكمة يعلمها سبحانه وحده، فيقف العبد عند هذا الحرمان ناسيًا أو متناسيًا أن الله عز وجل يقسم نعمه على عباده تبعًا لما سبق في علمه المحيط، وينسى آيات الله المذكرة بذلك؛ مثل قوله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، ويتناسى حقيقة أن من عباد الله من لا يصلحه إلا الغنى، ولو افتقر لفسد، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر، ولو اغتنى لفسد، وهكذا.
هذا الحرمان قد يدفع من يجهل هذه الحقيقة الثابتة إلى التضجر والتسخط والغل والحقد على من أنعم الله عز وجل عليه بمثل هذه النعم.
(2) الكبت والقهر، وهذا الأمر مشاهد في البلاد التي عانت من حكم الطواغيت المستبدة؛ حيث كانت تحول هذه الأنظمة الديكتاتورية بين شعوبهم وبين الحرية في التعبير وإبداء الرأي والجهر بالحق، ومن تجرأ وحاول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون عرضة للتنكيل والاعتقال والتعذيب والتشريد والمطاردة؛ مما يؤدي لامتلاء الصدور بالحقد والغل والضغائن تجاه النظام، ومع طول الكبت والقهر والتضييق يتحول الغل والحقد على المجتمع كله، ومن رحم هذا الاستبداد والقهر ظهرت الأفكار التكفيرية والمناهج الضالة.
(3) الاستخفاف بالحقوق، خاصة حق الأخوة الإسلامية، التي تبقي أواصر المودة والمحبة والصداقة متينة وقوية، فالتهاون بهذه الحقوق يورث القلب حقدًا وضغينة بحق من وقع التفريط عليه، خاصة وقت الأزمات، الذي يبحث فيه العبد على من يواسيه ويقف بجواره.
(4) الغرور والتكبر، وهو آفة الآفات، وأم المعضلات، ومفتاح الشرور كلها، فالمتكبر والمغرور شخص يكرهه الجميع، ويتحاشاه الجميع؛ لأنه يحتقر ويزدري من حوله، ويهوي النيل من الآخرين؛ مما يترك آثارًا سيئة في نفوس الآخرين، أدناها الاجتناب والتجافي، وأعلاها الحقد والغل والضغن.
(5) المراء والجدل؛ فالداعية يتعرض طوال اليوم للكلام والتحاور مع الآخرين، من أجل الإقناع والإرشاد، وهذا التحاور عادة ما يكون مدخلًا للمراء والجدل بين المتحاورين؛ لذلك قال أهل العلم أن من أعظم آفات المناظرات أنها تورث الحقد والغل بين المتناظرين؛ بسبب المراء والجدل في الكلام.
(6) الهجر والقطعية، لذلك لم يبح الإسلام الهجر إلا لسبب شرعي معتبر من أجل تحقيق الزجر، دون ذلك لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال؛ لأن الهجر والقطيعة تورث الحقد والغل والضغائن، وتمزق أواصر العلاقة الأخوية في المجتمعات المسلمة.
(7) السماع إلى الوشاة والنمامين؛ فالواشي والنمام يفسد في مرة ما يفسده ساحر في سنة، والإسلام نهى أشد النهي عن النميمة ونقل الكلام، والله عز وجل أمر بالتثبت من الأخبار، والتبين من الكلام حتى يرتب العبد أحكامًا، ويأخذ قرارات، ويتغير قلبه، بسبب هذه الشائعات والأكاذيب.
بسلامة الصدر ونقاء القلب يصل الداعية لأهدافه، ويفتح الله عز وجل قلوب العباد، بسلامة صدره ونقاء قلبه يرزقه الله عز وجل الصدق والحلم والبذل والصبر واليقين والتواضع والرفق واللين والشفقة والفهم، بسلامة الصدر يصل الداعية لدرجة المجاهد في سبيل الله، وهي الدرجة التي يتمناها أي مسلم على وجه الأرض. (بتصرف يسير).
موقع: طريق الإسلام