الدعاة بين دم البعوض والأحداث الجسام
حديثي هنا ليس عن ذاك الصنف من الدعاة الذين يدعون الى الله على بصيرة، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لم يكتموا شيئًا من الحق مخافة سوط ولا عصًا، يفزع الناس إليهم، بعد الله، في النوائب والشدائد والمحن والأوقات العصيبة، يدافعون وينافحون في نهارهم عن حقوق الفقراء والضعفاء والمظلومين، فإذا أمسى أحدهم قال بلسان الحال أو المقال: اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عُرْيًا فلا تؤاخذني به.
يشاركون المسلمين أفراحهم وأتراحهم، ويواسونهم بالتوجع لهم، كما كان بِشْر بن الحارث الحافي يفعل، فقد دخل عليه أصحابه في يوم شديد البرد وهو ينتفض، وقد تخفف من ثيابه، فقالوا: «ما هذا؟»، فقال: «ذكرت الفقراء وبردهم، وليس لي ما أواسيهم به، فأحببت أن أواسيهم في بردهم».
ولكن حديثي هنا موجه إلى هذا الصنف المُخَذِّل المُعوِّق من الدعاة، تسمع أحدهم في حال الأمن والطمأنينة وقد ارتفع صوته، وانتفخت أوداجه، وكثرت ادعاءاته، فتحسبه أسدًا هصورًا وشجاعًا مقدامًا، فإذا جدَّ الجِدُّ، وكان هناك شدة ومحنة لزم الصمت، وقعد في بيته، ولسان حاله يقول: هذا مغتسل بارد وشراب، فإن حدث وتكلم فبكلام لا يُرجى خيره، ولا يسلم من ضُرِّه؛ بل كما يقول الشاعر:
إن يك خيرٌ فالبعيد يناله وإن يك شر فابن عمك صاحبه
ولا يتحرج هذا الصنف من الإصرار، إلى درجة الاستماتة، في إحياء سنة أهل العراق قديمًا في شدة حرصهم على الانشغال بالشيء اليسير، وتفريطهم في الشيء الجليل، وذلك على عهد الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، فقد سأله رجل منهم عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل يصلي فيه أم لا؟ فرد عليه ابن عمر متعجبًا: ما أسألكم عن صغيرة، وأجرؤكم على كبيرة!! انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله، وقد سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا».
كان على هؤلاء الدعاة أن يشاركوا في الأحداث الجسام، التي تمر بها الأمة، ولو بشطر كلمة، في وجه الظلم والخراب، اقتداءً بنبينا صلى الله عليه وسلم، الذي كان في غاية النصح لأهله ولمجتمعه، والسعي في مصالحهم، فكان يحب لهم الخير، ويبذل أقصى جهده في إيصاله إليهم، كما كان يكره لهم الشر والظلم والفساد والإفساد، ويبذل أقصى جهده في تنفيرهم عنه، وكان يشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، مصداقًا لقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة:128]، ويعلل هؤلاء سر قعودهم بأن ما نحن فيه فتنة، التبس فيها الحق بالباطل، يقولون هذا في زمن بدا وكأنه قرية صغيرة، يسهل على كل ذي عقل صحيح وفطرة سليمة أن يتتبع الأمور بنفسه؛ ليقف على وجه الحق والباطل فيها، حتى ولو سلمنا جدلًا بأننا في فتنة فإنه لا يسوغ لكل متبوع مطاع من العلماء والدعاة أن يقعد في بيته، ويدع دفة السفينة يقودها السفهاء والمفسدون، ومنذ زمن بعيد رد شيخ المفسرين وإمام المؤرخين ابن جرير الطبري (المتوفى سنة 310هـ) على مروجي دعوى الاعتزال فى أوقات المهمات والملمات فقال: «لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه، بلزوم المنازل وكسر السيوف، لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل الفسوق سبيلًا إلى ارتكاب المحرمات؛ من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم، بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا: هذه فتنة، وقد نهينا عن القتال فيها، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء».
إن الداعية المخلص المهموم بحال أمته، المشفق على أبناء جنسه وأهل جلدته، يرتب أولويات دعوته، فيقدم الأصل على الفرع، والضروري على الحاجي والتحسيني، والأهم على المهم، كما هو منهج الأئمة المهديين، ومواقفهم في هذا الشأن محفوظة في كتب التاريخ وتراجم الرجال، وهي من كثرتها تستعصي على الحصر، أكتفي منها بالمواقف الثلاث التالية:
الأول: موقف بعض الدعاة من أهل الكوفة حين خرجوا إلى الصحراء يتعبدون، واتخذوا مسجدًا وبنوا بنيانًا، فأتاهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، فقالوا: «مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، لقد سرنا أن تزورنا»، قال: «ما أتيتكم زائرًا، ولست بالذي أترك حتى يُهْدَمَ مسجدُ الجَبَّانِ، إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما صنعتم مَن كان يجاهد العدو، ومن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن كان يقيم الحدود؟! ارجعوا فتعلموا ممن هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم منهم»، فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم.
الثاني: تلك الأبيات التي كتبها عبد الله بن المبارك أثناء انشغاله بأمر مهم من أمور الأمة، وأرسلها إلى صديقه الزاهد العابد الفضيل بن عياض، ومطلعها:
يا عابـــــــد الحرمين لو أبصــــرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحـــــــورنا بدمــــــــائنا تتخــــــضب
إلى آخر الأبيات، فلما وصلت الفضيل، وكان في المسجد الحرام، قرأها وذرفت عيناه وقال: «صدق ونصح».
الثالث: موقف شيخ الاسلام ابن تيمية من الهجوم الشرس في عصره على ثوابت الملة وأصول الديانة، يحكي عنه تلميذه سراج الدين أبو حفص البزار (المتوفى: 749هـ) فيقول: «التمستُ منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، إذا قَلَّد المسلم فيها أحد العلماء جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء قد تجاذبوا أَزِمَّة الضلال بقصد إبطال الشريعة المقدسة، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حججهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيف دلائلهم، ذبًا عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية».
ولم يتوقف هذا الفقه الحي عند شيخ الإسلام؛ بل امتد إلى تلامذته، فتلميذه العلامة ابن مفلح هو الذي نقل في كتابه (الآداب الشرعية) كلمات موجزة تلخص لنا ما سبق، وهي: «إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة» صدق والله، وصدق القائل:
إن الزعامة والطريق مخوفة غير الزعامة والطريق أمان
____________