logo

الانقلاب على المنهج..الأسباب والعلاج


بتاريخ : الأربعاء ، 23 شعبان ، 1436 الموافق 10 يونيو 2015
بقلم : الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل
الانقلاب على المنهج..الأسباب والعلاج

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، يا مصرف القلوب، ثبت قلبي على طاعتك، يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي.

لا يعرف العبد قيمة هذه الأدعية المأثورة وأهميتها إلا حين يرى كثرة الانتكاس في الناس، وتقلب قلوبهم، وتغير مناهجهم، وانتقالهم من فكر إلى فكر، ومن منهج إلى آخر؛ بل من الاستسلام لله تعالى ولشريعته إلى التمرد عليه وعلى شريعته.

لقد رأينا وسمعنا لأناس كانوا من أهل الخير والصلاح والعلم والدعوة والاحتساب والجهاد، أضحوا من أهل الردة والزندقة والإلحاد!

ورأينا دعاة رزقهم الله تعالى من تحصيل العلم، وقوة الحجة، وحدة العقل، وروعة البيان ما حشد جمهور الأمة خلفهم، وشرقت محاضراتهم في الأرض وغربت، ثم خلعوا جلودهم، ولبسوا جلودًا غيرها، واقتحموا ميادين من كانوا قبل ينتقدونهم، وقبلوا منهم استضافتهم في صحفهم وفضائياتهم، ولم يكن ذلك بالمجان، أو لتبليغ الدعوة فحسب...، ولكل تنازل ثمنه!

ورأينا من استسهلوا إباحة المحرمات، وإسقاط الواجبات، ومنهم من قضوا شطر حياتهم في حراسة الفضيلة، ثم انقلبوا يبيحون ما يروج للرذيلة، ويقضي على الفضيلة.

وسمعنا عمن بكت الجموع لحسن أصواتهم بالقرآن، ولبكائهم في قراءتهم ودعائهم، فارقوا المحاريب إلى غيرها!

ورأينا من خضعوا لضغط الواقع الاقتصادي؛ فتساهلوا في أنواع من المعاملات المحرمة، ووظفتهم قلاع الربا في لجانها لتسبغ الشرعية على كثير من تجاوزاتها!

ورأينا من خضعوا لضغط الواقع السياسي، ومتطلبات الجاه والإعلام، فحولوا قطعيات الشريعة إلى ظنيات، ثم أتوا عليها بالمسح والتحوير والتدوير لإضعاف الولاء والبراء، وإعلاء شأن الروابط الجاهلية، وتفتيت الرابطة الإيمانية، وتسويق آثام الحضارة المعاصرة.  

كل أولئك وقع ولا يزال يقع، وهو مرشح للازدياد، وما كان أحد يظن قبل عقدين أن شيئًا من هذا سيحدث، وهو ينبئ عن ضعف النفس البشرية، التي قد تتبدل قناعاتها بين لحظة وأخرى، فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله العزيز الحكيم.

ولقد حاولت أن أتلمس أسباب انقلاب القلوب، وتبدل القناعات، وانتكاس المفاهيم عند المبدلين فوجدت أن منها ما يعود إلى ذات المنقلب، ومنها ما يعود إلى المجتمع.

 

القسم الأول: أسباب تعود لذات المنقلب:

السبب الأول: مشارطة الله تعالى في دينه، وقلَّ من الناس من يسلم من ذلك، لكنهم لا يشعرون به، ولا يبين لهم إلا عند الابتلاء، ولو تأملنا أشهر حديث في النية، الذي لا يكاد يوجد باب من أبواب الشريعة إلا دخله؛ بل كان أساسًا فيه، حتى عده بعضهم نصف الشريعة، لوجدنا معنى المشارطة فيه: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»(1).

ومشارطة العبد لله تعالى في التزام دينه، والأخذ بعزائم شريعته قد تكون لغاية واحدة، وقد تكون لغايات عدة، وقد تكون لغاية صحيحة، كما قد تكون لغاية غير صحيحة، لكن أصل المشارطة غير صحيح.

فمن المشارطة على غاية غير صحيحة التزام الشريعة لغاية دنيوية؛ كطلب رئاسة دينية، فإذا لم تحصل بدّل حاله لنيلها بطريق أخرى، أو إذا حصلت له رئاسة دنيوية تخلى عن شيء من الدين لأجلها.

وقد يصبر صبرًا طويلًا على الدين لما يرجو من عاقبته الدنيوية، كما وقع لرويم البغدادي الزاهد (ت:303)، قال جعفر الخلدي: من أراد أن يستكتم سرًا فليفعل كما فعل رويم؛ كتم حب الدنيا أربعين سنة، فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد، وكانت بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه، فترك لُبْس التصوف، وَلَبِس الخز والقصب والديبقى، وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها، فلما وجدها أظهر ما كان يكتم من حبها(2).

نقل حادثته هذه شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلق عليها بقوله: «هذا مع أنه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف، وكان فقيهًا على مذهب داود»(3).

وكم رأينا في زمننا هذا من أشخاص بدلوا حالهم بعد الجاه والمال، أو في سبيل طلبهما؟!

ومن المشارطة على غاية صحيحة طلب العز والنصر والتمكين للأمة؛ فبعض الناس يلتحق بركب الأخيار، ويلتزم حدود الشريعة، وينافح عن الدين بيده وقلمه ولسانه، ولكنه لا يجعل غايته من ذلك تحقيق العبودية لله تعالى، وطلب مرضاته، أو لربما اشترك في قلبه مع هذه الغاية غايات أخر؛ كمن يجعل التزامه بالمنهج الصحيح سلمًا لعز الأمة ورفعتها وتمكينها، كونه يوقن بهذه الحقيقة المقررة في الكتاب والسنة.

وقد يرى كثير من الناس أن هذه غاية نبيلة ومطلوبة ومرغوب فيها، لكن يفوت عليهم أن تحقيق العبودية لله تعالى يجب أن يكون غاية لا يزحمها شيء البتة، ويكفي في سوء هذا المنهج أن أصحابه حولوا دين الله تعالى إلى وسيلة لتحقيق غاية أخرى، وهي عز الأمة وتمكينها ونصرها، فإذا فات هذا المطلوب غيروا الوسيلة لتحقيقه.

ومن راجع الخطاب الدعوي قبل عقدين فسيرى تكثيفًا في المبشرات بقرب نصر الأمة وعزها والتمكين لها، وأنها تعيش مرحلة مخاض، وأن نصر الله تعالى قريب، وأن اشتداد الظلمة يعقبه الفجر، وأن بعد العسر يسرًا، فلما لم يقع ذلك كما قرروه في أذهانهم في زمن معين انسلخوا من منهجهم، وانقلبوا على من بقي عليه بالتنقيص والثلب؛ ليثبتوا للناس أن تحولهم عنه كان صحيحًا، وليتهم لما فعلوا ذلك كفّوا أقلامهم وألسنتهم عن منهج الأمس ومن ثبت عليه، ولم يصطفوا مع المنافقين في حربهم عليه.

ومن جعل المنهج الحق وسيلة لغاية أخرى فحري أن يفارق الحق إلى الباطل إذا لم تتحقق الغاية أو استبطأها، والواجب على المسلم أن يربي نفسه، وعلى الدعاة أن يربوا أتباعهم على جعل الحق هو الغاية، ولا يكون وسيلة لأي شيء آخر، ولنا عبرة في أنبياء الله تعالى، الذين لم يُمَكَّن لبعضهم في الأرض؛ بل قتلهم أعداؤهم، وآخرون لم يتبعهم إلا قليل من الناس، فهذا نبي الله تعالى نوح عليه السلام يخبر الله عنه فيقول: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «عُرِضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد»(4).

 

السبب الثاني: الجهل بسنة الله تعالى في معاملته لعباده، فيرى المتمسك بالدين أن نصوص النصر والعز والتمكين، وكون العاقبة للمتقين تتناوله وإخوانه، وأنهم الموعودون بذلك، مع ما فيهم من نقص وخلل في تحقيق شروطه، وأيضًا ما يعتريهم من استعجال في وقوعه، واستبطاء لتحقيقه؛ فيُكَيِّفون وعد الله تعالى لعباده بالنصر والتمكين على ما في أذهانهم، ويُخضعِون سنن الله تعالى في خلقه لمطلوبهم وعجلتهم.

والعجلة طبع في الإنسان لا يكاد ينفك عنه {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن تمكين الله تعالى لدينه قال: «وَلكنكم تستعجلون»(5) فهو استعجال في طلب النصر، وتحقق سنن الله تعالى في عباده، ومن هنا ندرك الحكمة من كثرة التأكيد على أن وعد الله تعالى حق، وقرنه بالأمر بالصبر، والإخبار أن العاقبة للمتقين؛ لأن النفس البشرية جزوعة ملولة، كثيرة السخط والتذمر، نزاعة للكسل والدعة والهوى، فلا بد من اليقين مع الصبر لتحقق الوعد {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [الرُّوم:60]، وتكرر هذا الأمر في آيتين أخريين، وأمة بني إسرائيل عذبت عذابًا أليمًا طويلًا على يد فرعون وجنده، ومع ذلك كانت وصية موسى لهم هي الصبر {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وليس من الصبر في شيء تغيير المنهج الصحيح والانقلاب عليه استبطاءً للنصر والتمكين.

فالواجب على المؤمنين عمومًا، وأهل الدعوة خصوصًا، أن يجعلوا مشاعرهم وسلوكهم وتصوراتهم تجاه الأمة وقضاياها، وما يحصل لها من الألم والذل والهوان على أيدي أعدائها، وما يُرغب فيه من نصرها وعزها والتمكين لها...، خاضعة للنصوص لا أن نخضع النصوص لرغباتنا وأهوائنا، فإن سنن الله تعالى لا تتبدل.

ولو نظرنا إلى أشهر قضية للمسلمين مع أعدائهم في عصرنا، وأكثرها تناولًا في كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم ومجالسهم، هي قضية احتلال اليهود، بمعونة النصارى، لبيت المقدس قبل ستة عقود، وهي القضية التي عجز المسلمون عن نجدة إخوانهم فيها، فأدى ذلك إلى يأس كثير من الناس، حتى ممن ينتسبون للعلم والدعوة، من حلها، فركبوا مراكب التطبيع مع اليهود، أو على الأقل سكتوا عن هذه القضية لمللهم من تناولها.

ولو أنعمنا النظر في التاريخ لوجدنا أن الصليبيين احتلوا بيت المقدس زهاء تسعين سنة، وعطلت الصلاة في المسجد الأقصى، ورفع الصليبيون عليه صلبانهم، واتخذوه اصطبلات لخيولهم، وحظائر لخنازيرهم، وربما داخل كثيرًا من القلوب آنذاك يأس من عودته للمسلمين، لكنه عاد بعد تسعين سنة من البناء والدعوة والجهاد، وكثير من الذين شاركوا في إعادة بناء صفوف الأمة آنذاك، ودعوة الناس إلى أن يعودوا إلى دينهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وكانوا فاعلين في تحقق النصر العظيم الذي توج على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى بطرد الصليبيين منه...، كثير منهم لم يذوقوا حلاوة هذا النصر، واخترمتهم المنايا قبل إدراكه، ومنهم الملك العادل نور الدين، وليس صلاح الدين إلا ثمرة من ثمراته.

إن كثيرًا من المتحمسين لدين الله تعالى يزعجهم حال الأمة وضعفها، وانتهاك الملأ منها للحرمات، وتعطيل الشرائع، والصد عن دين الله تعالى، فلا يتحلون بالصبر والحكمة في مواجهة هذا الواقع الأليم، ولا يصدرون عن العلماء الربانيين؛ بل منهم من يطعنون فيهم، متهمين إياهم بالمداهنة والجبن والضعف، ويظنون أنهم أقدر من العلماء على مواجهة الملأ من أقوامهم، وأن الناس ينصرونهم، فيعرضون أنفسهم لما لا يطيقون من البلاء، فيؤدي ذلك بهم إلى الانتكاس، والانقلاب على المنهج الصحيح.

والله تعالى رحيم بعباده، عليم بقدرتهم وطاقتهم، فلم يكلفهم ما لا يطيقون {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وتغيير المنكر كان فيه تدرج من اليد إلى اللسان إلى القلب حسب القدرة، وأباح الله تعالى النطق بكلمة الكفر لدفع البلاء، ولحماية المؤمن نفسه من الافتتان، مع أن كلمة الكفر أسوأ شيء يقال، وهي سبب للعذاب.

وقد روى حذيفة، وهو أعلم الصحابة بالفتن وأسباب النجاة منها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه»، قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(6).

والمؤمن مطالب بإصلاح نفسه، ثم تعدية هذا الصلاح إلى غيره، فإذا كان سعيه في إصلاح غيره يعود على نفسه بالفساد كف عن ذلك، وهذا يتصور وقوعه حال الفتن، وغلبة الأهواء، وقوة أهل الفساد، وتمكنهم من البلاد والعباد؛ ولذا جاء الأمر بالعزلة حال غربة الدين، وكثرة الفتن؛ للحفاظ على النفس من التردي والتبديل والانقلاب، وعلى هذه الأحوال تحمل الأحاديث والآثار، ومنها:

1- حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام»(7).

2- حديث عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذ بقيت في حثالة من الناس؟»، قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: «إذا مرجت عهودهم وأماناتهم وكانوا هكذا»، وشبك الراوي بين أصابعه يصف ذاك، قال: قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: «اتق الله عز وجل، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم»(8).

3- قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فأي قلب لم يعرف المعروف ولا ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله»(9).

4- حديث سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: آمر أميري بالمعروف؟ قال: «إن خفت أن يقتلك فلا تؤنب الإمام، فإن كنت لا بد فاعلًا فيما بينك وبينه»(10).

5- قول حذيفة رضي الله عنه: «إني لأشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله»(11).

6- قول ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إنكم في زمن الناطق فيه خير من الصامت، والقائم فيه خير من القاعد، وسيأتي عليكم زمان الصامت فيه خير من الناطق، والقاعد فيه خير من القائم، فقال له رجل: كيف يكون أمر من عمل به اليوم كان هدًى، ومن عمل به بعد اليوم كان ضلالةً؟ فقال: اعتبر ذلك برجلين من القوم يعملون بالمعاصي، فصمت أحدهما فسلم، وقال الآخر: إنكم تفعلون وتفعلون، فأخذوه فذهبوا به إلى سلطانهم، فلم يزالوا به حتى عمل مثل عملهم»(12).

7- كان الأحنف رحمه الله تعالى جالسًا عند معاوية رضي الله عنه فقال: يا أبا بحر، ألا تتكلم؟ قال: «إني أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت»(13).

8- قال مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله تعالى: «لئن لم يكن لي دين حتى أقوم إلى رجل معه مئة ألف سيف أرمي إليه كلمة فيقتلني إن ديني إذًا لضيق»(14).

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى، بعد أن ساق جملة من الآثار: «أجمع المسلمون على أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم، الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكره بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا، لكنها كلها مقيدة بالاستطاعة»(15).

والناس في هذا الباب طرفان ووسط؛ فطائفة اتكئوا على نصوص الرخصة لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوغوا المنكرات بأنواع الحيل، وعدوا النهي عن المنكر نوعًا من الخروج المذموم، وهؤلاء هم مرجئة العصر، ولا فرق بينهم وبين العلمانيين إلا أن هؤلاء يتمسحون بالشريعة، وينطقون بالكتاب والسنة، وإلا فهم في النهاية يلتقون مع المشروع العلماني التغريبي.

وطائفة أخرى أخذوا بنصوص العزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يفطنوا لقدراتهم، وظنوا أنهم يقوون على البلاء، لكنهم لما ابتلوا افتتنوا فغيروا مناهجهم، وانقلبوا على إخوانهم، وكانوا طرائق قددًا.

وأهل الوسط هم الذين عملوا بنصوص العزيمة في مواطنها، وأخذوا بنصوص الرخصة في مواضعها، وفروا من الفتن، ولم يعرضوا أنفسهم لما لا طاقة لها به من البلاء، فسلم لهم دينهم، ودرءوا من الشر ما استطاعوا، ولا زالوا ثابتين، ثبتنا الله تعالى وإياهم على الحق المبين.

والمؤمن إذا عجز عن النهي عن المنكر مباشرة لجأ إلى الأمر بالمعروف، فإن أمره بالمعروف نهي عن المنكر بطريق غير مباشر، والانفتاح الذي أصيبت به بلادنا وإن أدى إلى تسرب منكرات كثيرة، وتسبب في تطاول المنافقين على الشريعة وحملتها ومؤسسات تبليغها؛ فإن فيه خيرًا من جهة تنشيط الإنكار باللسان وبالقلم؛ فإن دعاوى حرية الرأي التي يتكئ المنافق عليها في تسويق المنكر يستطيع المحتسب أن يتكئ عليها في النهي عن المنكر، وذم أهله، وفضيحة المسوقين له.

السبب الثالث: عدم العناية بعلم الباطن والسلوك، وإهمال تزكية النفس بالأعمال الصالحة، وربما كان للمنقلب معاص في السر أهملها، فكان ضعيفًا في مواجهة المنكر وأهله، خائرًا في مقابلة الابتلاء بالصبر والثبات، فانهار في الابتلاء وانقلب على منهجه، وقل أن نجد عالمًا من علماء السلف إلا وله كتابة في الزهد أو الرقاق أو تزكية النفس، سواء كانت مفردة أم ضمن مصنف، وهم وإن كانوا يكتبون لغيرهم فإنهم أول من ينتفع بما يكتبون.

والمؤمن إذا اعتنى بصلاح باطنه، وسعى في زيادة إيمانه، وعمل على رسوخ يقينه، وأرى الله تعالى من نفسه اجتهادًا وجِدَّا في ذلك أعانه الله تعالى وسدده ووفقه لما أراد، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًا، قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَق