logo

الارتخاء المعرفي


بتاريخ : الأحد ، 8 جمادى الأول ، 1438 الموافق 05 فبراير 2017
بقلم : سليمان العبودي
الارتخاء المعرفي

عصرنا رديء في أكثر مقوِّماته وأفكاره ورموزه وأطروحاته، ومن رحمة الله بأُهيْل الحقِّ فيه أن خفف عنهم وعلِم أن فيهم ضعفًا، فجعل لهم خصومًا من الضعف والهزال بمكان، فلو بُعث بيننا أولئك المتضلِّعون الذين جالدهم أئمَّةُ الإسلام لأمسى الناس في أمرٍ مَرِيج، وكلما سمَقتْ قامةُ طالبِ العلم، ورسخَت قدمُه في رِياضِه، وكان على قدْر من التوفيق والهداية في طلبِه؛ أدرك شيئًا من تهافُت الأفكار التي طَمَست حولَه الأبصار والبصائر، فاستطاع أن يُشيِّدَ بناءً معرفيًّا متماسكًا، ولم تدركه آفة الارتخاء المعرفي.

ثمَّة طرائق قِدَد في مدارسة العلوم وتشييد المعارف في الذهن، فكما أن الكتاب الواحد تتخطفه أيادٍ متعددة؛ أحدهم قرأه ليستفيد، والثاني ليستمتع، والثالث ليباهي به، والرابع ليكتب ردًّا؛ فكذلك يصنع قاصدو الفنون وطالبو المعارف، فتجدهم يتفاضلون تفاضلًا هائلًا، لا سيما في المخرَجات النهائية، فهم وإن ورَدُوا نبعًا واحدًا إلا أنه يُفضَّل بعضهم على بعض في الأُكل، والإشارة إلى اتحاد النبع مع اختلاف الأكل معنى مستقر ثابت في الوحي وبَدائهِ العقول، وهو متناثر في كلام أهل العلم، وأقتصر على الإشارة التيميَّة لامتياز حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه، فحين تحدث ابن تيمية بحفاوة بالغة عن امتياز ابن عباس بالتفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشقِّ الأنهار منها، واستخراج كنوزها، أشار إلى أن ثَمَّة مَن شاركه من أقرانه ذات المعارف، لكنه فاقهم بالقدرة على استثمارها، فيقول: «وقد سمِعوا ما سمِع، وحفِظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيبِ الأراضي، وأقبلِها للزرع، فأنبتت من كل زوج كريم»!

ثمَّة قراءةٌ تعمِد إلى تحسس زوايا الفن، ووضْع الكفِّ على صدر العلم، واستشعار نبضات قلبه ومرتكزِ مسائله؛ فهي تَعرف المقدِّمات مع النتائج، وتُخرِّجُ الفروع على الأصول، وتتغَيَّا بلوغ تحصيل الملَكَة لا مجرد ضبط الأقوال، وأخرى تمرُّ مرورًا عابرًا على جميع مسائل الفن، وتتحفَّظها لا تخرم منها حرفًا، لكنها بمنأى عن ملامسة الجذور وتَرْسيةِ القواعد، والثالثة، وهي أساس حديثنا هنا، هي قراءة المُلَح، وجمْع اللطائف، ومراكمة المعلومات الجانبية؛ إنها ليست صعودًا على بنيان العلم الأصيل، والدخول إليه من أبوابه المُشرَعَة وطرقه المعبدة، وإنما هي التقاط لبِنَات متساقطة منه ومراكمتها حوله، ثم التطاول بالأعناق بها على البُنيان الأصيل!

الـمُلَحيُّ يعرف ابن تيمية؛ لا بالوقوف على جوابه عن القانون الكلي للمتكلمين في درء التعارض، ولا باستظهار القواعد السبع والمَثلَين المضروبين في التدمرية، ولا بتلمُّس جوانب عبقريته في معالجته شبهات ابن المطهِّر في المنهاج، وإنما بضاعة المُلحيِّ أن ابن تيمية قال مرة: «أنا المُكدِّي وابن المُكدِّي، وهكذا كان أبي وجَدِّي»، وأنه راسل أمه يومًا وكتب لها ذات رسالة: «ولسنا، والله، مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم»، وهو يعرف الشاطبي لا بهمِّ جرْد (الموافقات)، والوقوف على حقيقة نظريته، واستجلاء قدْر الإضافة الشاطبية المقاصدية، وإنما تستهويه رسالةُ (الإفادات والإنشادات)، المشتملة على مُلح جمعها الشاطبي، وفوائد يسيرة في أبواب شتى من العلم، وأغلبها من تلك التي قال عنها ابن عاشور ذات تعليق لطيف له عن المُلَح بأنها (كالزهرة تشمُّ ولا تُحكُّ!).

وهو يعرف السيوطيَّ لا بمدارسة مسائل (الإتقان)، وتحفُّظ أبيات (الكوكب)، ومعاناة مسائل (الهمع)، وإنما يستظهر أن له منظومة في المجدِّدين، وكونه جعل نفسه مجدد ذلك العصر، وأنه من مكثري التأليف الذين جاءوا في القرن التاسع والعاشر يوم أن تأخَّر المد المعرفي، وصار مزاج ذلك العصر هو الجمع والتلخيص والاختصار، وكثر حاطبو الليل... إلخ إلخ، معلومات لطيفة ليست من صُلب العلم، ولا من أسس بناء المناظر.

ليس هذا هو ابن تيميَّة، وليس ذاك هو السيوطي، وليس هذا هو الشاطبي، ولو بُعِث أحدهم من قبره ورأى ما انهمك فيه المُلَحيُّون من نتاجه لارتفعت حواجبُ دهشته، فهو كمن بنى قصرًا لقوم، فجاءوا وافترشوا عند بابه.

لم يَغِبْ عن خَلَدي أن الله خلق الناس متباينين في قدراتهم، ومتفاوتين في اهتماماتهم، فجعل منهم الحفيَّ بأصول العلم والمدرِك لمراتبه، بينما فطَرَ آخرين على الولع بالمُلَح والأنس بجمعها، والانكباب على مظانها، ولم يَخفَ عن خاطري أن من المعارف ما هي أصول علمٍ ما، بينما هي مُلَحُ علم آخَر، كبعض المعلومات التاريخية؛ هي أساس بنيان المؤرِّخ، وصُلب معرفته، بينما تَنزل من المتن لتحُلَّ في الهامش بالنسبة للفقيه.

كل هذا وذاك لا يستدعي الكتابةَ عن إدمان الملح بوصفها من أسباب الاسترخاء المعرفي، وإنما ثَمَّة ظاهرة تلفت الانتباه، وتُبرز نفسها يومًا بعد يوم، وهي تضخ حُقنًا من الاسترخاء في وريد الحركة العلمية، وهي انصراف كثير من طلاب العلم الأصيل عن صُلب معارفهم، وأساس بنائهم على حساب مسائل مفضولة، فكلما حلَّت مناسبة علمية، كمعرض الكتاب، طفَح إلى السطح سَدنةُ الارتخاء، وأعمدة المُلح، وأقطاب المادة الخفيفة، وكم تُنفَّق بسببهم بضاعة الروايات والتراجم والسير، وملح العِلم ولطائفه، وأمست اليوم شبكات التواصل تُكيِّف طرائق التلقي والتأصيل، وفرضت ذوقها الخاص بها، فصار كثير من وُرَّادها يجد نفسه تشرَّب طرائقَ معينة في التحصيل، وتثمين الفائدة والحُكمِ عليها؛ فمثلًا: حين يقرأ كتابًا ما تستهويه فوائدُ معينة، إما لغرابتها، والإغراب مقصدُ كثير من المتابعين، رغم كون كثيرٍ من أصول العلم ليست من غرائب المعارف بالمفهوم الشائع، وكان بعض السلف يفرُّ من هذه الغرائب في الأحاديث، ويجعلونها علامةَ إعلال، وإما لكونها قصيرة فيُتاح له أن ينشرها في حسابه، وإما لكونها محل جدل ساخن، ويضرب الذِّكر صفحًا عن تلك التي لا يُتاح له نشرها؛ إما لطولها، أو لكونها لم تَثُرْ حولها إشكاليات، فصار ثَمَّةَ ذوق خاص في اقتناص الفوائد تفرضه هذه الشبكات، وتُحتِّمه على مدمني النظر إليها أثناء قراءتهم للكتب، فيصبح طالب العلم، الخاضع لمزاج هذا الذوق المرحلي، جاهلًا بأصول من المسائل العلمية، ويغدو في بنائه المعرفي فجوات بيِّنة، وهي تلك المسائل التي لم تصبِح بعدُ تحت الطلب في شبكات التواصل!

وليست المشكلة في مجرد قراءة الروايات، على سبيل المثال، لتحصيل مقاصد معينة من التعمق في أغوار النفس الإنسانية، أو لامتلاك ناصية المَلَكة البيانية، أو حتى للاسترواح عن النفس، وطرْد السآمة عن القلب، فإذا بقيت هذه الأقاصيص في حدِّها اللائق بها ضاقت مآخذ الإشكال فيها، وليس الإشكال في الْتِمامِ شَمْل العامة على هذه البضائع الخفيفة واستئناسهم بها، فمِن شأن العامة أن (الحديث لهم عن جَملٍ طار أشهى إليهم من الحديث عن جَملٍ سار، ورؤيا مرئية آثرُ عندهم من رواية مروية)! وإنما يجب أن يُصارَحَ طلابُ العلم الأصيل، وناشدو الثقافة الرصينة، وحمَلَة الهم المعرفي الجادِّ بأن ثمة في العلم مُلَحًا وعُقَدًا، على حد تعبير الشاطبي في الموافقات، وأن هذه الموجة التي تصدِّرُها شبكات التواصل ستقذف بهم بعيدًا عن مرامهم إن هم ركبوها، وأن هذا الغبار الذي تراكم حول كتب الأصول ومعاقِد العلم في مكتباتهم لن تزيحه أعاصير الندم ورياح الحسرة بعد انفراط سنوات البِناء، بالإضافة إلى كون الذهن يتكيف ويعتاد على ما حُمِل عليه؛ فإنه إذا ألِفَ ثقيل العلم وأصوله سهُل عليه ما سواه، يقول أبو بكر الصولي: «فربما كان الإنسان مهيَّأَ الذهن لحَمْل العلم، قريبَ الخاطر، متَّقد الذكاء، فيُضيِّع نفسه بإهمالها، ويُميت خواطره بترك استعمالها»، فهذه الملَكات كما أنها قابلة للتمدد، فهي معرضة للضمور والاسترخاء بإراحتها بهذه اللطائف.

ومن صور الـمُلَح المقنَّعة: الإغراقُ في المفاضلة بين المحققين ودُور النشر، والانهماك في تتبُّع الطبعات، ومعرفة امتيازات العلماء وأنسابهم وما يتصل بحياتهم الخاصة، فهذه صنعة المؤرِّخ لا العالم، الذي تَعنيه حراسةُ الفن، وتسييجُ بيضة العلم، ولَمْلَمَة أطراف القواعد، وابتناء الفروع على الأصول، وتجسير الفجوات بين الأبواب، وكل ما يدركه وراء ذلك من هذه الملح هو تبَع لذلك الأصل.

وقد رأيت لفيفًا من هؤلاء يستطيل على بعض طلاب العلم المنهمكين على مدارسة المتون، والعاكفين على حفظها، وضبط أبوابها، واستيعاب مسائلها، بأنهم لم يتأهلوا إلى مقارعة الأفكار الحديثة، ولم يتهيئوا لمنازلة الأطروحات الحداثية بكل ما فيها من زخَم لُغوي أخَّاذ، ومادة كلامية هائلة...، وأحدثت هذه الاستطالة تشويشًا لدى بعض المشتغلين بالتأصيل، فأَرْخى سَمْعَه، وبدَّل رفوفه؛ ليواكب أقطاب المُلح في لفت الانتباه، فثمرة الـمُلح نَقدٌ، وثمرة التأصيل نسيئة، بالإضافة إلى أن (كل مجهول مهيب) كما يقول ابن القيم، ولعمري، إن الاقتصار على المتون، على ضعفه وقصوره، هو خيرٌ من حَشْدِ هذه المُلح؛ فلا يخلو متن من عُقَدٍ من العلم، وأصول مسائله، فحاصل ما فعله الملحيون مجرد فرار عن المتون إلى الهوامش!

وليس الخطاب موجَّهًا للعاجز، فـكما يقول الجاحظ: «بين التقصير من جهة التفريط والتضييع وبين التقصير من جهة العجز وضَعْف العزم فرقٌ»، إنما الخطاب للقادر على التأسيس، لِمَ يتخلَّى عن أعز ما يملك، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! وتجد بعض هؤلاء حين يُولع بمثل هذه اللطائف الملقاة على جنبات العلوم، وأرصفة الكتب، وزوايا التراجم يتترَّس ببعض المقولات التي توحي بشرف هذه اللطائف، ولا شك أن العلم بعامة الـمُلح واللطائف هو خيرٌ من الجهل بها، إنما حديثنا عن عمارة الوقت، ومسارعة الزمان، ومسابقة لياليه بالأهم قبل فوات الأوان، بالإضافة إلى كون هذه الملح ما لم تنتظم داخل منظومة معرفية متكاملة هي أقرب ما تكون إلى قصاصات ورقية متناثرة، والتأصيل هو الذي يلمُّ شتات هذه القصاصات، ويصنع منها دفترًا متماسكًا!

لمَّا عرَض زينةُ الفقهاء في القرن الماضي العلامةُ السعدي لآية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} في تفسيره العذب، الذي حرَص على أن يكون خالصًا لعُقَد العلم، خطَر بباله أن ثَمَّة مَن سيقرأ هذه الآية الكريمة السالفة فينصرف ذهنه عن درَك حقائق قصة أصحاب القرية، وعاقبة ما جرى لهم بعد التكذيب باثنين من الرسل، ثم مواصلتهم التكذيب بعد التعزيز بثالث، ويصدُف عن الدروس الهائلة التي تَفيض بها جنَبات الآيات، ثم يتعلق بالملح الملقاة التي على ضِفاف الخبر، كتعيين تلك القرية وأين تقع...، ونحو ذلك من اللطائف التي يحسب الواقفون عليها أنهم على شيء، فبعثَ رسالةً صريحةً للمُلحيِّين، الذين تستروح نفوسهم هنا، وتسترخي مفاصل أذهانهم عند هذا الشطِّ من العلم؛ قال الشيخ: «وتعيين تلك القرية لو كان فيه فائدة لعينها الله، وطريق العلم الصحيح الوقوفُ مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليلَ عليها، ولا حُجَّةَ عليها، ولا يحصُل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن...»، واليوم نرى في كل فنٍّ من العلم يتجاوز واردون نبعَه الصافي وماءَه العذب؛ ليقفوا على اسم قريةٍ وردتْ فيه، وهم، من حيث علموا أو لم يعلموا، يَشيعون رُوحَ الاسترخاء المعرفي والتبلُّد الذهني، ولو رأينا أن الذي فعل ذلك قلةٌ منهم لصَمَتْنا وقُلْنا: قد علم كل أناس مشرَبَهم!

فلا يُراد من بثِّ هذا الهمِّ والمصارحة به مصادمةُ السُّنن، ومغالطة الطبائع البشرية بتضييق مجرى العلم في أصوله، وردْم ينابيع المُلح، وعرقلة أقدام ذوي العرَبات الخفيفة والبضائع السهلة، ولكن المقصود الإشارة إلى تفاضل العلم، وإفساح الصدر؛ ليتسنَّمَ المقدمةَ ذَوُو الأحلام والنهى العلمية، ولفتُ الانتباه إلى أن من المعارف دُورًا للسكنى، ومنها حدائق للنزهة، والعاقل مَن يبني الدار قبل رصف البساتين!

____________

موقع: الدرر السنية