افريقيا في عصر الإكراه.. نافذة الفرص ومخاطر التفكك

في عالم تتحول فيه قواعد القوة بسرعة وتتراجع فيه بنية النظام الدولي الليبرالي الذي وُلد بعد عام 1945، تجد أفريقيا نفسها أمام لحظة مفصلية قد تحدد موقعها في النظام العالمي لعقود مقبلة. فمع صعود نهج «سياسات الإكراه»
في عالم تتحول فيه قواعد القوة بسرعة وتتراجع فيه بنية النظام الدولي الليبرالي الذي وُلد بعد عام 1945، تجد أفريقيا نفسها أمام لحظة مفصلية قد تحدد موقعها في النظام العالمي لعقود مقبلة. فمع صعود نهج «سياسات الإكراه» التي يعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو نهج يقوم على الصفقات الثنائية، والتجارة كأداة ضغط، والابتعاد عن الاعتبارات القيمية تواجه القارة السمراء مجموعة من المخاطر الاستراتيجية، لكنّها تمتلك أيضًا فرصة نادرة لإعادة تشكيل موقعها إذا ما استطاعت أن تتحرك بشكل جماعي وتتحول من فسيفساء سياسية إلى تكتل اقتصادي حقيقي.
توضح أماكا أنكو، رئيسة قسم أفريقيا في «مجموعة أوراسيا»، في تحليلها المنشور في «فورين أفيرز»، أن الدول الصغيرة والمتناثرة ستجد نفسها الأضعف في هذا العالم الجديد، خاصة أن أفريقيا رغم كونها موطنًا لنحو 20٪ من سكان العالم لا تمثل سوى 5٪ من الاقتصاد العالمي. وفي ظل نظام دولي تتحكم فيه قواعد القوة والتنافس والمساومة، فإن نجاح القارة لن يكون ممكنًا إلا عبر تكامل اقتصادي أعمق، وأسواق إقليمية أوسع، واستراتيجيات تصنيع مشتركة تمنح الحكومات قدرًا أعلى من النفوذ في مواجهة القوى الكبرى التي تتعامل مع العالم بمنطق «الربح والخسارة» لا بمنطق التنمية والحوكمة.
ورغم صعوبة تحقيق هذا النوع من التنسيق، إلا أن أفريقيا تمتلك إرثًا تاريخيًا يثبت قدرتها على ذلك. فخلال موجة التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تشكلت منظمة الوحدة الأفريقية كرد فعل وحدوي واعٍ، قادته دول مثل غانا والسنغال وتنزانيا وزامبيا، ونجحت حينها في خلق إجماع قاري تجاوز الانقسامات اللغوية والعرقية. لكنّ وحدة تلك الحقبة كانت ذات طابع أخلاقي وتحرري، بينما يحتاج العصر الحالي إلى وحدة ذات مضمون اقتصادي ومؤسسي، قادرة على خلق كتلة تفاوضية فاعلة في عالم قائم على القوة السوقية.
ضمن هذا السياق، تبدو نيجيريا وجنوب أفريقيا المرشحتين الوحيدتين لقيادة هذا التحول. فنيجيريا تمتلك ثقلًا سكانيًا وثقافيًا هائلًا، وهي مركز صناعي ناشئ يحتاج إلى سوق أكبر. أما جنوب أفريقيا، فتمتلك الاقتصاد الصناعي الأكثر تطورًا في القارة، ولديها نفوذ دولي بفضل عضويتها في مجموعة العشرين والبريكس. وقد سبق للبلدين أن قادا إصلاحات مؤسسية كبرى مطلع الألفية، أبرزها تأسيس الاتحاد الأفريقي و«نيباد»، وهي سوابق تُظهر إمكانية بناء قيادة مشتركة تعيد إحياء مسار التكامل الإقليمي.
لكنّ التحديات الداخلية التي ضربت البلدين خلال العقد الماضي تباطؤ النمو، التوترات الاجتماعية، الصراعات الداخلية، وتراجع الاستثمار أضعفت قدرتها على قيادة القارة وأفقدت الاتحاد الأفريقي بوصلته. ومع دخول العالم مرحلة جديدة تتسم بالحمائية الأميركية والندية الصينية والانكفاء الأوروبي، فإن استمرار هذا الضعف سيجعل أفريقيا مكشوفة أمام ضغوط القوى الكبرى.
في المقابل، يُظهر الاتجاه العالمي أن أفريقيا بحاجة ملحّة إلى تسريع تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية، التي تضم 54 دولة وسوقًا بقيمة 3.4 تريليونات دولار. فهذه المنطقة إذا تحولت من اتفاق نظري إلى بنية اقتصادية حقيقية يمكن أن تخلق سلاسل إنتاج إقليمية، وتحدّ من التبعيات التجارية، وتجذب استثمارات صناعية كبرى في مجالات مثل المعادن النادرة، والدواء، والتكنولوجيا، والطاقة. وقد بدأت نيجيريا وجنوب أفريقيا بالفعل خطوات في هذا الاتجاه، خاصة بعد أن أثارت الرسوم الجمركية الأميركية دعوات لتعزيز التجارة البينية وتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية.
ويرى التحليل أن نجاح مشروع التكامل يحتاج أولًا إلى تنسيق ثنائي واضح بين البلدين في الملفات الدبلوماسية والتجارية، ثم إلى تعبئة رأي عام اقتصادي جديد داخل القارة، وأخيرًا إلى ضم دول محورية مثل مصر والجزائر والمغرب لتشكيل كتلة اقتصادية–سياسية قادرة على مواجهة ضغوط نظام عالمي لا يعترف إلا بمن يمتلك القوة التفاوضية.
في نهاية المطاف، يخلُص التحليل إلى أن أفريقيا أمام خيارين فقط، إما أن تبقى دولًا متفرقة يسهل ابتلاعها في عالم يقوم على الإكراه التجاري والاستراتيجي، أو أن تستثمر لحظة التحول التاريخية لتشكيل كتلة صلبة تقودها نيجيريا وجنوب أفريقيا، تضمن للقارة صوتًا ونفوذًا ومسارًا مستقلاً في النظام الدولي الجديد. وبين هذين الخيارين، تقف القارة أمام اختبار نادر قد يجعلها، للمرة الأولى منذ الاستقلال، لاعبًا دوليًا لا مجرد ساحة تتنافس فوقها القوى الكبرى.
