إضاءة حول موضوع القراءة السريعة
هذه المقالة - من عُنوانها - لا تهتم بالحثِّ على القراءة بصفة عامة، ولا تَنُص على فوائدها، وماذا نجني منها ومن غيرها من الأمور التي لها علاقة بالقراءة من حيث أنواعُها وكيفيَّتها؟ لأنه من المُفترَض أن نكون قد تجاوزنا هذه الأمور؛ بل إنه من المُحزِن - مع الأسف الشديد - أن نتكلَّم في مواضيع كهذه لأُمَّةٍ، أولُ كلمة نزلت في دينها ودستورها كلمة (اقرأ)، وإنما أُسلِّط الضوء على نوع من أنواعها، وهي القراءة السريعة.
وهي لا تفيد كثيرًا المتقدّمين في القراءة، ولا مَن مَلَك هذه المَلَكة - فقد جاوزوها - بقدر ما تفيد المبتدئين في القراءة، ولهذا أُسلِّط الضوءَ على بعض الأمور بشيء من النقد، وأذكر بعض العوامل والأمور التي تُساعدنا في مسألة تسريع القراءة، لا سيما في عصر تَدفُّق المعلومات وكثرتها في عصر الفيضانات الفكرية والمعلوماتية والثقافية، وفي عصر تداخلت فيه الثقافات والحضارات؛ لننتفِع بهذه المهارة.
ففي العقود الأخيرة تضاعفت المعارف، وكثُرت المعلومات، وزادت المطبوعات، وهذا يُحتِّم على المثقَّفين والقُرَّاء المتابعة والاستمرار في بناء البناء المعرفي والثقافي لديهم، ومما يُساعدهم على ذلك تَعلُّمُ المهارات التي تُمكِّنهم من الاستفادة بأكبر قَدْر مُمكِن من هذه المعارف، والتي منها تَعلُّم مهارات القراءة؛ لأن القراءة من أكبر الروافد التي يُحَصِّل الإنسان منها المعلومة.
القراءة السريعة هي مهارة كسائر المهارات التي تُكتَسَبُ اكتسابًا، وتُحصَّل بالدُّرْبة والمتابعة، كما يُحصِّل الإنسانُ مهارةً من المهارات الرياضية مثلاً، والدافع وراء هذه المهارة وتَعلُّمها واكتسابها هو الاستفادة بأكبر قَدْر ممكِن من الوقت ومن المعلومات المتدفقة أيضًا في أقل وقت ممكن.
والقراءة السريعة تبقى وسيلة من الوسائل التي يُستفاد منها، وليست غايةً بذاتها، وهي مَلَكة من الملكات التي يَمتلِكها الإنسان، وليست خرافة ولا انحرافًا عن جادَّة الصواب في موضوع القراءة؛ واعتراضات المعترضين على هذا النوع من القراءة مردود، ولا حُجَّة له؛ فهي - كما قلتُ - مهارة ووسيلة وليست غاية، فبعض المعترضين ظنَّ أنها غاية فقط لِعَدِّ كم كتابًا قرأْنَا؟ أو كم صفحةً قرأْنَا في كذا من الوقت؟ لهذا حذَّر وأنذر من هذا النوع، ويَستشهِد بأدلة ليست في محلها؛ كالاستشهاد بإعادة الكلام أكثر من مرة على المستمعين من قِبَل الرسول صلى الله وعليه وسلم ليَستوعِبه الناس، والدليل عليه لا له، فأعاد ثلاثًا ليُفْهِم، إذًا مَن فَهِم فلا حاجة للتَّكرار، كما لا حاجة للبطء كذلك، وهي مَلَكة شخصية تتعلَّق بالتحمُّل وليس بالأداء.
وكذلك القراءة السريعة ليست شيئًا جديدًا كما يُرَوِّجُه بعض من يقيمون الدورات التدريبية، فلدينا نماذج من العلماء والْمُحَدِّثين قديمًا تُبَيِّن لنا أنها ملكة قديمة، وليس اكتشافًا عصريًّا وحصريًّا عند البعض ممن يُرَوِّجون لهذه الفكرة، وسأذكر بعضًا منها في نهاية المقال، فيقيمون الدوْرات التدريبية يدفع فيها المتدربون أموالاً بِغَضِّ النظر قلَّتْ أو كثُرَت، ويقضون أوقاتًا يتدربون على بعض المهارات التي يُلَقِّنُونهم إياها، ويُطَبِّقون بعض الأمور التي هي أشبه ما تكون بالطقوس التي تُؤَدَّى، ثم نخرج وما معنا إلا العناوين غالبًا؛ ظنًّا منهم أنهم بأداء هذه الطقوس في دورة أو دورتين امتلكوا هذه المهارة، ولو أنهم أيقنوا أنها مهارة لما أتعبوا أنفسهم كثيرًا في الذهاب والإياب لتلقّي هذه المهارات، التي أكثر ما يكون جُلُّ الحصول عليها ذاتِيًّا.
فأي مهارة لا يُحصِّلُها الإنسان بالتلقين وإنما بالدُّرْبة، كما يريد من يتعلم السباحة، فعليه بالنزول في الماء والتدرب، ومن أراد أن يكون عدَّاءً سريعًا فعليه أن يتدرب على هذا، ومع مرور الأيام يصل لبغيته، وكذلك الذي يريد أن يصل للقراءة السريعة عليه أولاً أن يدخل في مضمار القراءة، ويتجول في عالم الكتب، وسيصبح قارئًا سريعًا؛ فالقراءة - أيضًا - رياضة، ولكنها رياضة عقلية.
فما حاجة التدرب لمن لا يملك عادة القراءة أصلاً؟! وما حاجة الاعتراض لمن تجاوز البداية وسار وقتًا طويلاً في عالم القراءة؟! فلا بد من معرفة أنها تبقى وسيلة لا غاية، والوسيلة لا تُذَمُّ أو تُمدَح إلا بعد معرفة الغاية منها، فإذا كانت لمجرد عدِّ العدد من الصفحات والكتب والمجلدات، فتُذَم، أما إذا كانت لحفظ الوقت من الضياع، وللاستفادة بأكبر قدر ممكن من الوقت ومن المعلومات في أقل وقت ممكن مع الفهم، فتُمْدَح، فلا نريد أن نقف عند الوسائل على أنها غايات.
فتحصيل الكثير من المعلومات بوقت قصير في عصر تضخُّم المعلومات وكثرتها لدرجة الفيضان الفكري والثقافي والمعلوماتي - يُعتبر شيئًا مفيدًا، والاستفادة من هذه الملكات عند احتياجها يعتبر إنجازًا ودليلاً على الذكاء.
لهذا لا بد من معرفة: ما هي العوامل التي تساعد على تحصيل هذه المهارة؟ لأن معرفة العوامل والأسباب التي تساعد الإنسان على اكتساب ما ينفعه ويحفظ وقته شيءٌ ممدوح، ومما حث عليه الشرع، ومن أبرز هذه العوامل:
1- الدخول في عالم القراءة والولوج في هذا المضمار والاستمرار والمداومة على القراءة، خصوصًا اليومية؛ فكل ذلك يساعد الإنسان على تملك هذه الملكة.
2- تحصيل قدر كبير من مفردات اللغة؛ فله أثر في هذه المهارة؛ إذ إنَّ من مَلَكَ اللغة سهُل عليه القراءة، بل وتسريعها أيضًا.
3- معرفة المصطلحات والمقصود منها، فمن يقرأ في الفقه ولا يعرف مصطلحاته، أو في الطب أو في الفلسفة أو في أي تخصص كان، ولا يعرف معنى مصطلحاته، فستتأخر عليه عملية القراءة.
4- حركة العين، وكيفية الانتقال بها بين الكلمات والسطور.
5- التركيز وعدمه؛ فله أثر في سرعة القراءة وبُطْئها.
6– عدم الخلط بين القراءة وبين التفكير في المقروء؛ فتخصيص وقت للقراءة ووقت للتفكير في المقروء يساعد على التفكير وعلى التركيز في المقروء، وكذلك التحليل والنقد والتعقيب له وقته أيضًا.
7- وضعية القارئ والإنارة، ووضوح الرؤية، ونوعية الورق، وتقليب الصفحات، له أثر أيضًا، وغيرها من الأمور الذاتية المتعلقة بالشخص أو المكان أو المقروء ونوعيته.
ولا بد من التنبه إلى مسألة الفَهم؛ فالبعض قد ييئَس لعدم الفهم من أول مرة، أو يفهم بشكل جزئي، فلا بأس بهذا، فمع الدُّرْبة ومرور الأيام وتتابُع القراءة تنحلُّ المسائل ويُفتَح المغلق، وتمتلك الملكة.
نموذجان من سريعي القراءة قديمًا وحديثًا:
هذان النموذجان يبيّنان لنا أن هذا النوع من القراءة ليس بالشيء الجديد، وأنه كان معمولاً به عند علمائنا قديمًا، وما زال موجودًا حتى عصرنا الحالي، وأكتفي بذكر هذين النموذجين[1].
1- قراءة صحيح البخاري في ثلاثة مجالس.
قال الخطيب في "تاريخ بغداد"[2] في ترجمة إسماعيل بن أحمد بن عبدالله الضرير الحِيْري - ت430 هـ - أنه خاطبه في قراءة كتاب الصحيح، وكان سَمِعَه من الكُشْمِيهَني[3] عن الفربزي[4]، فأجابني إلى ذلك، فقرأتُ جميعَه عليه في ثلاثة مجالس، اثنان منها في ليلتين، كنتُ أبتدئ بالقراءة وقتَ صلاةِ المغرب، وأقطعها عند صلاة الفجر، وقبل أن أقرأ المجلس الثالث عَبَر الشيخُ إلى الجانب الشرقي مع القافلة، ونزلَ الجزيرةَ بسوقِ يحيى، فمضيتُ إليه مع طائفةٍ من أصحابنا كانوا حضروا قراءتي عليه في الليلتين الماضيتين، وقرأتُ عليه في الجزيرة من ضَحْوَةِ النهار إلى المغرب، ثم من المغرب إلى وقتِ طلوع الفجر، ففرغتُ من الكتاب، ورحلَ[5] الشيخُ في صبيحة تلك الليلة مع القافلة اهـ.
أقول - القول للمؤلف -: فلِلَّهِ تلك الهمم، ما أسمقها وأعلاها! فهل سمعت بمثل هذه الهمم والعزائم؟! فاليومُ الثالث جميعُه في القراءة من ضحوته إلى المغرب، ومن المغرب إلى الفجر، فبمثل هذه الهمة بلغ الخطيب ما بلغ، حتى دُعي بـ "حافظ المشرق"، وصار بمثل هذه الهمة عمدة المحدثين ومعوَّلهم، بل صاروا عِيالاً على كتبه كما قال ابنُ نقطة[6].
ما قيل حول هذه القصة.
قال الحافظ الذهبي في السِّيَر[7] معلِّقًا: قلت: هذه - والله - القراءةُ التي لم يُسْمَع قطُّ بأسْرَعَ منها.
وقال أيضًا في تاريخ الإسلام[8]: وهذا شيءٌ لا أعلمُ أحدًا في زماننا يَسْتَطيعُه.
وفي الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر[9] للسخاوي، أنه سأل شيخه - أي ابن حجر - هل وقعَ لكم استيفاءُ يومٍ في القراءة؟ - يعني: مثل ما وقع للخطيب - فقال: لا، ولكن قراءتي الصحيح في عشرة مجالس لو كانت متواليةً لنقصت عن هذه الأيام، ولكن أين الثُريَّا من الثرى؛ فإنَّ الخطيب رحمه الله قراءته في غايةٍ من الصِّحة والجَوْدة والإفادة وإبلاغ السَّامعين اهـ.
2- وفي ترجمة الشيخ ابن باز المسمَّاة بـ "الإنجاز" أن أحد الطلبة قرأ على الشيخ سنن النسائي في سبعة وعشرين مجلسًا.
• النماذج مأخوذة بالنص من كتاب المشوق للعمران.
[1] مأخوذ من كتاب المشوق إلى القراءة وطلب العلم "للعمران"، ومن أراد الاستزادة فعليه الرجوع إلى الكتاب ففيه الكثير؛ المثال الأول صفحة 70، والمثال الثاني ذُكِر صفحة 87.
[2] 6/ 314.
[3] كُشْمِيهَن إحدى قرى مَرْو، ضبطها في الأنساب: 5/ 75 بكسر الميم، وفي معجم البلدان: 4/ 463 لياقوت: بفتح الميم.
[4] راوية البخاري، وفاؤه فيها الوجهان الفتح والكسر.
[5] وكان مرتحلاً من نَيْسابور إلى مكة، مصطحبًا معه كتبه وكانت وِقْر بعير.
[6] التقييد لرواة السنن والمسانيد: 1/ 170.
[7] 18/ 279 280.
[8] وَفَيَات 463، ص/ 99.
[9] 1/ 104.
المصدر: شبكة الألوكة