logo

أغلق مكتبة وافتح...


بتاريخ : الخميس ، 18 جمادى الأول ، 1440 الموافق 24 يناير 2019
بقلم : د. عبد الكريم بكار
أغلق مكتبة وافتح...

يقول أحد الباحثين: أسكن في عاصمة من أرقى العواصم العربية، وفي حي من أفضل أحيائها، وقد رأيت بعيني أمرًا محزنًا؛ حيث تم إغلاق أربع مكتبات في ذلك الحي خلال أربع سنوات، وبالطبع فإنني لا أستطيع أن أحصي عدد المطاعم والمقاهي ومحلات الملابس ومواد البناء... التي تم افتتاحها في تلك المدة!!

مسألة القراءة واقتناء الكتاب والمساهمة في تطوير المعرفة من المسائل التي تشكل موضوعًا مقلقًا لكل غيور على مستقبل هذه الأمة؛ وذلك لأن القراءة والمزيد من التعلم والمعرفة صارت هي البوابة الوحيدة للتخلص من التخلف والتبعية؛ ولهذا فإن إعراض الناس لدينا عن القراءة هو عبارة عن أزمة طاحنة، هي أكبر بكثير مما نعانيه من مشكلات؛ مثل: البطالة، وإدمان المخدرات، وارتفاع نسب الطلاق...؛ وما ذلك إلا لأن الجهل هو السبب الكامن وراء معظم المشكلات التي تعاني منها الأمة.

أنا لا أريد هنا أن أقلِّب المواجع، لكن سيظل من واجب الباحثين والمتخصصين تجلية الواقع أمام الناس بأفضل صورة ممكنة، وإن مما يجب توضيحه حقيقةَ أننا اليوم نقع في ذيل الأمم على مستوى شغفنا بالعلم، وعلى مستوى إنتاجه وتطويره ونشره.

وقد أشار أحد الباحثين، في آخر مؤتمر عقده اتحاد الناشرين العرب، إلى أن متوسط ما يقرؤه الأوروبي هو خمسة وثلاثون كتابًا في السنة، على حين أن الإسرائيلي يقرأ ما متوسطه أربعون كتابًا في السنة، أما الشاب الهندي فإنه يقرأ ما يقارب عشر ساعات أسبوعيًا، أما العربي فقد ذكر الباحث أن كل ثلاثة آلاف ومئتي عربي يقرءون كتابًا واحدًا في السنة! وهذا شيء مخجل ومحزن، ويمكن أن نجعله مضحكًا أيضًا إذا أحببنا أن نتصور صفًا مكونًا من ثلاثة آلاف شخص يمرون من جانب كتاب، ليلقي كل واحد منهم نظرة عليه، ويقرأ ثلاثة أسطر أو أربعة، ثم يمضي في سبيله ليعود في عام آخر ويفعل نحوًا من ذلك!!

ليس الفقر هو السبب في هذا، فما تنفقه النساء العربيات على الزينة والحلي والملابس يتجاوز ما تنفقه المرأة الأوروبية والأمريكية خمسة أو ستة أضعاف على ذلك، وما ينفقه الشباب العربي على التدخين، وعلى مكالمات الجوال يكفي، من غير مبالغة، لشراء مئات الملايين من الكتب سنويًا.

الأسرة غير المتعلمة وغير المهتمة وغير الواعية هي التي تؤسس في عقلية الطفل، وترسخ في نفسه الاستهانة بالعلم والزهد في الكتاب، وذلك من خلال إعراض الأبوين عن القراءة، وعدم القيام بتأسيس مكتبة منزلية ملائمة للصغار، ومن خلال عدم تحفيزهم لأبنائهم على القراءة والبحث، ثم تأتي المدرسة لتكمل المشوار، وذلك حين تختصر المناهج، وتخفف أعباء الواجبات المنزلية، مع تسهيل الانتقال من مستوى دراسي إلى آخر، وحين تخفق في تحبيب الكتاب إلى نفوس الطلاب، ويأتي بعد ذلك دور الحكومات حين تضخ أموالًا طائلة في استثمارات، وفي إيجاد فرص عمل ووظائف لا يتطلب إشغالها إلا القليل من التأهيل العلمي والقليل من المعرفة الراقية.

ولعلنا جميعًا نلاحظ الأرقام الفلكية للأموال التي تنفق على بناء الفنادق والمطاعم والملاهي، وباقي متطلبات تنشيط السياحة والترفيه!

قد يقول قائل: الوضع فعلًا مأساوي، فما الذي في مقدورنا أن نفعله؟

وأقول: إن الذي في إمكاننا أن نفعله كثير للغاية؛ بل هو أكثر مما نتخيل ونتوقع، ولعل منه الآتي:

1- أن يعتقد كل واحد منا أن إعراضه عن القراءة، وقد صار شابًا أو رجلًا، ليس بسبب مؤامرة كبرى حيكت بليل، وليس بسبب توجيه أي حكومة، كما أنه ليس بسبب تقصير أبويه، وإنما بسبب يعود إليه شخصيًا.

2- الإصرار بعزيمة على أن يقرأ كل واحد منا نصف ساعة على الأقل في كتاب جيد قراءة مثمرة ومركَِّزة.

3- تخصيص 2% من مصروف الأسرة لشراء الكتب والروايات وقصص الأطفال.

4- العمل على تكوين مكتبة منزلية بالتدريج، وبمشورة كل من في الأسرة.

5- إن المدرسة الجيدة ليست هي التي تدلل طلابها، والجامعة الجيدة ليست هي التي ينجح طلابها بمجرد الدراسة أيام الاختبارات، وإنما المدرسة الجيدة والجامعة الجيدة هي التي يشعر الطالب خلال دراسته فيها أنه مضغوط، وأنه لا يشبع النوم، ويشعر أن الوقت غير كافٍ لأداء ما يُطلب منه، هذه المؤسسة التعليمية هي التي تجعل المنتسب إليها يعرف قدر العلم وأهمية الكتاب.

6- لا بد لكل قطر إسلامي من تبني مشروع وطني عملاق، يساهم فيه المثقفون ورجال الأعمال وكل محبي المعرفة؛ وذلك من أجل ترسيخ عادة القراءة في المجتمع، وتشجيع نشر الكتب الجيدة، وتوفير أماكن جيدة وكثيرة لممارسة نشاط القراءة.

إن مشكلة الإعراض عن القراءة لو كانت من صنع عدو لوجب علينا أن نخوض معه حربًا مفتوحة؛ حتى نتخلص منه ومنها، أمَا والمشكلة من صنع أيدينا فإنها تتطلب منا وقفة صادقة مع النفس، وحرقة على الأجيال الجديدة تشبه حرقة الأمهات.

 

موقع د. عبد الكريم بكار