logo

لطائف حول (نزل) و(أنزل) في القرآن


بتاريخ : الثلاثاء ، 5 شعبان ، 1446 الموافق 04 فبراير 2025
لطائف حول (نزل) و(أنزل) في القرآن

يذكر ابن الأثير رحمه الله: أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارها، وفتش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا.

والذي يعنينا من كلام ابن الأثير هو أن كل تحول في بناء الكلمة يصاحبه تحول في معناها، وهذا أمر غير خاف على أهل العربية عمومًا، والواقفين على بلاغتها على وجه الخصوص. 

وتأسيسًا على هذا الملحظ، نتوقف هنا عند فعلين وردا بصيغتين مختلفتين في مواضع عديدة ومتفرقة من القرآن الكريم، وهما الفعل {نزل}، و{أنزل}، وهذان الفعلان ورد كل منهما في آية على حدة في مواضع، كما وردا مجتمعين في آية واحدة في موضعين، نقف عليهما في أثناء هذا المقال. 

ومن المواضع التي ورد فيها هذان الفعلان في آية واحدة قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3].

وقد توقف عدد من المفسرين عند هذين الفعلين في هذه الآية، وأعملوا الفكر والنظر ليروا فيما إذا كان ثمة فرق بينهما، أم أن الأمر لا يخرج عن كونه مجرد تنوع لفظي، لا يحمل أي دلالة ذات بال؟ وكان حاصل آرائهم بهذا الصدد وفق التالي: 

الرأي الأول: أن التعبير بلفظ (التنزيل) {نزل}، مرده إلى أن القرآن نزل متتابعًا على فترات، استغرقت ما يزيد عن عشرين سنة، بينما كان التعبير بلفظ (الإنزال) {أنزل}، مرده إلى أن التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة، ولم ينزلا على فترات، كما كان من شأن القرآن.

وأوضح من عبر عن هذا الرأي الزمخشري، ثم تابعه عليه بعض المفسرين: يقول الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قيل: نزل الكتاب، وأنزل التوراة والإنجيل؟ قلت: لأن القرآن نزل منجمًا، ونزل الكتابان جملة.

ثم جاء الرازي وتابع الزمخشري في هذا الرأي، فقال: إن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، وقال أيضًا: ولفظة (نزل) تدل على التفريق، وأما لفظة (أنزل) فتدل على الجمع". وعلى أساس هذا التفريق بين الفعلين فسَّر الرازي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، إذ لما كان المراد هنا - بحسب ما رجحه الرازي- نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا دفعة واحدة، كان من المناسب التعبير بلفظ (الإنزال) دون (التنزيل).

 وهذا الرأي يشدُّ من أزره قوله سبحانه في آية أخرى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20]، فقد اجتمع الفعلان معًا في هذه الآية {نزلت}، و{أنزلت}، فلما كان المؤمنون هم الذين يودون نزول السورة - وطلَبُهم نزولها إنما هو على ما اعتادوه من التفريق والتفصيل- كان من الملائم هنا التعبير بفعل (التنزيل) {نزلت}، ولما كان المراد تحصيلها بجملتها بعد كمال نزولها، كان من الملائم التعبير بفعل (الإنزال) {أنزلت}، فجاء التعبير في كل موضع بما هو أنسب للمعنى.

 وقد نوقش هذا الرأي من جهتين:

أولهما: أن التعبير بفعل (الإنزال) ورد في بعض الآيات القرآنية مرادًا به القرآن الكريم، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، وأجيب عن هذا، بأن التعبير بـ {نزل} يختلف عن التعبير بـ {أنزل} إذا اجتمعا، فهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا يمكن أن يجتمعا، فيمكن التعبير بـ (التنزيل)، ويراد به (الإنزال)، ويمكن التعبير بـ (الإنزال)، ويُقصد به (التنزيل).

ثانيهما: ما ذكره ابن عاشور من أن التوراة والإنجيل نزلا مفرقين، كشأن كل ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة؛ إذ لا يُعرف أن كتابًا نزل على رسول دفعة واحدة.

الرأي الثاني: أن التغاير بين الفعلين ليس من باب أن القرآن نزل على دفعات، والتوراة والإنجيل نزلًا دفعة واحدة، بل الأمر مرجعه إلى قوة أحد الفعلين؛ إذ إن الفعل المضعف يدل دلالة أقوى على الحدث من الفعل غير المضعف، فقولك: (فسَّر) أقوى من (فَسَر)، و(فرَّق) أقوى من (فَرَق)، و(كسَّر) أقوى من (كسر)، فالفعل المضعف يدل على تقوية الفعل، ويكون المقصود هنا بيان فضل القرآن وهيمنته على غيره من الكتب، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، قال ابن عاشور موضحًا هذا المنحى: "إن العدول عن التعدية بالهمز، إلى التعدية بالتضعيف، لقصد ما عُهد في التضعيف من تقوية معنى الفعل، فيكون قوله: {نزل عليك الكتاب} أهمَّ من قوله: {وأنزل التوراة}؛ للدلالة على عظم شأن نزول القرآن. 

الرأي الثالث: أن الفعل (أنزل) يُستعمل في حق التوراة والإنجيل من جهة أنهما نزلا دفعة واحدة، بينما يُستعمل الفعلان {نزل} و{أنزل} معًا في حق القرآن من جهة أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل على دفعات على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عبر عن هذا الرأي الآلوسي بقوله: "التعبير بأنزل فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد، وهذا بخلاف القرآن، فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: {نزل} و{أنزل}، وهذا أولى مما قيل: إن {نزل} يقتضي التدريج {وأنزل} يقتضي الإنزال الدفعي.

الرأي الرابع: أن الأمر لا يعدو أن يكون من باب التنويع والتغيير في اللفظ، من غير أن يحمل دلالات أُخر، وقد تبنى هذا الرأي أبو حيان في "تفسيره"، حيث قال: "غاير بين {نزل} و{أنزل}، وإن كانا بمعنى واحد، إذ التضعيف للتعدية، كما أن الهمزة للتعدية". وقد رد أبو حيان قول الزمخشري - السابق الذكر-، وقال بهذا الصدد: "التفرقة بين {نزل} و{أنزل}، لا تصح؛ لأن التضعيف في (نزل) ليس للتكثير والتفريق، وإنما هو للتعدية، وهو مرادف للهمزة". 

وحريٌّ بنا بعد الوقوف على آراء المفسرين حول هذين الفعلين، أن نشير إلى أمرين اثنين:

أحدهما: أن بعض المفسرين لم يتعرض لذكر أي فرق بين هذين الفعلين، ما يُفهم من هذا المسلك أن الفعلين عنده بمعنى واحد، وهذا هو صنيع الطبري وابن كثير وغيرهما. 

ثانيهما: أن هذه الآراء لا تعدو كونها اجتهادات قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، وقد يتفق القارئ معها وقد يخالفها، لكن تبقى في نهاية المطاف رؤية اجتهادية، لا يليق التقليل من شأنها، بل المطلوب تقديرها، سواء اتفقنا معها أو خالفنها.

رابط الموضوع: موقع دار الإسلام