تحول العبادات إلى عادات وأثره في حياة المسلمين
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
أما بعد: فالفرق كبير شاسع بين أن يعتاد المرء العبادة فتصبح جزءًا من حياته وسلوكه، وبين أن تغلب عليها العادة فتفقدها صفة العبادة، وتعرضها للتغير والزوال تبعًا لتغير تلك العادة.
وقد غلبت العادات على كثير من الأعمال الشرعية في المجتمعات الإسلامية اليوم فأخرجتها عن وصف العبادة حتى زهد الشاب فيها وتحولوا عنها، بعد أن كانت عبادات خالصة تؤدي وظيفتها في حياة الناس.
ويرى المتتبع لهذه الظاهرة في حياة الناس: أن هذا التحول الخطير الذي عم الكبار والصغار، والرجال والنساء، والأفراد والجماعات، قد شمل أيضًا على مختلف أشكالها، وتفاوت درجاتها، فلم يقتصر على بعض الفضائل والمندوبات، ولا على بعض المظاهر والشعائر، بل تعداها إلى كثير من الواجبات الأساسية، والأركان الإسلامية.
والذي يعجب له المرء كل العجب أن تتحول أركان الإسلام الخمسة عند كثير من المسلمين اليوم من عبادات وأركان، إلى عادات ومظاهر...
ولهذا أحببت أن أعرض في بحثي هذا نماذج من هذه التحولات، محللًا أسبابها، ومشيرًا إلى مكامن الخطر فيها، مؤيدًا ذلك بصور عملية من واقع حياة المسلمين... عسى أن نتنبه إلى هذا الخطر الذي يهدد إسلامنا وإسلام أجيال بعدنا، ونحن عنه غافلون، مطمئنين لشيوع المظاهر والشعائر في حياتنا الخاصة والعامة، فنندفع إلى دراسة هذه الظاهرة ومعالجتها.
وسيشمل بحثي النقاط التالية:
أ- مفهوم العبادة في الإسلام.
ب- تحول هذا المفهوم تدريجيا.
ج- أمثلة على هذا التحول.
د- سبب هذا التحول.
ه- خطره على الحياة الإسلامية.
وأساليب علاجه.
أسأله سبحانه أن يلهمنا الصواب، وأن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، والله ولي التوفيق...
مفهوم العبادة في الإسلام:
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فحصر فيها حياته، وجعلها الغاية من خلقه، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ولهذا كانت حياة المسلم كلها -كما أرادها الله- عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية... فالمسلم عبد الله في كل تحرك وسكون {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
ومن هنا عرف الإمام ابن تيمية رحمه الله العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (انظر: كتاب العبودية (ص: 38- 39).
وفي تأكيد هذا الشمول لمعنى العبادة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولًا وأخيرًا... (انظر كتاب فقه الدعوة (ص: 66).
وإذا ما عرف العلماء العبادة بالخضوع الشامل، والطاعة الكاملة، فلا بد لنا من أن نلاحظ في تعريف العبادة بالنسبة للإنسان قيدًا خاصًا يميز خضوعه عن خضوع غيره من المخلوقات، فالكون كله بأملاكه وأفلاكه، وجماداته وحيواناته خاضع لله عز وجل لا يخرج عن طاعته قيد شعرة، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
ولهذا كان لا بد لنا من قيد مميز لعبادة الإنسان عن عبادة غيره من المخلوقات، قيد ينسجم مع ما وهبه الله إياه من نعمة العقل، ألا وهو قيد "الإرادة".
فعبادة الإنسان لله هي: خضوعه الإرادي الشامل وطاعته الإرادية المطلقة له سبحانه، أما الخضوع القسري فلا مزية فيه لمخلوق على مخلوق...
ومن هنا نلاحظ أن القرآن الكريم استعمل لفظة العبادة بالنسبة للإنسان استعمالا يشعر بهذا القيد الإرادي فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال أيضًا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، والاستكبار عن العبادة أمر إرادي لا يكون إلا من الإنس والجن، أما غيرهم من الملائكة مثلًا فلا يعرفون الاستكبار؛ لأنهم مفطورون على الطاعة والخضوع، قال تعالى في وصف الملائكة: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]، ولهذا كان مفهوم العبادة في الإسلام يشتمل على عنصرين:
1- الخضوع الشامل لله عز وجل.
2- كون هذا الخضوع إراديًا مقصودًا.
ولما كان الخضوع الإرادي لله عز وجل عنوان العبادة الحقيقية من هذا الإنسان، كان كافيا أن يرافق هذا الخضوع أي تصرف من تصرفات الإنسان الاختيارية أو الاضطرارية ليصبح هذا التصرف عبادة لله عز وجل؛ لأنه ابتغى به وجهه، وجاء على وفق رضائه، ومن هنا كان بإمكان المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة حتى عاداته وغرائزه من طعام وشراب ولباس وسكن ومتعة في هذه الحياة...
فهو يماثل غيره في صور هذه التصرفات، ويتميز عن غيره في حقيقتها واعتبارها... ففي الحديث الشريف: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (رواه مسلم.).
كما يكفي أن يفارق هذا الخضوع الإرادي أي تصرف من تصرفات الإنسان ليفقد هذا التصرف وصف العبادة حتى ولو كان هذا التصرف صلاة وصيامًا، أو زكاة وحجًا أو غير ذلك من شعائر العبادات، «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه)، كأن يقوم بمثل هذه العبادات ولا يقصد منها العبادة أو أن تكون من فاقد العقل مثلًا.
تحول مفهوم العبادة:
عرف المسلمون الأولون حقيقة معنى العبادة، فكانوا عبادًا لله حقًا، وكان وصف العبودية جليًا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات... إذ كانوا لا يتحركون تحركًا ولا يسكنون سكونًا إلا ويستشعرون رضا الله عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تحركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة.
ولما ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيًا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات، ولقد كان هذا التحول والبعد متنوعًا فيهم، ومتفاوتا بينهم... فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه ومع غيره... وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع الله فخرجوا بذلك عن الجادة.
وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادة وفق أحكام الإسلام؛ بينما هم يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر، ولا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله! وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر، يخرج من هذا الدين، وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني (انظر: كتاب فقه الدعوة (ص: 67)، وكذلك (ص: 60، 61).).
وهناك من المسلمين من انفصل شعورهم عن سلوكهم في أداء هذه الشعائر التعبدية، فخضعوا لله بجوارحهم، ولم يخضعوا له بمشاعرهم وقلوبهم، بل تصور كثير منهم تعبده لله نقمة عليه، وقيدا لسعادته وحريته في هذه الحياة، فتراه لا يخضع عن طواعية ورضى، أو يخضع لله فيما خضع له مجتمعه، أو اعتاد الخضوع فيه من بيئته، وهو لا يجد لهذا الخضوع معنى، ولا يحس له في نفسه أثرًا.
مما شوه صورة العبادة في نفوس الأجيال، وأدى إلى تركها والاستكبار عنها... فخرج الناس عن وظيفتهم الحقيقية في هذه الحياة، وخبطوا خبط عشواء... مما أجهد الدعاة والوعاظ، وأوقعهم في الحيرة من أمرهم، لا يعرفون لهذا التحول الكبير سرًا، ولا يجدون منه مخرجًا.
أمثلة على هذا التحول:
بعد أن كان للشعائر التعبدية قدسيتها في نفوس المؤمنين تبعًا لتفهمهم لها وحرصهم عليها... فقد الناس بتحول مفهوم العبادة عن معناه الصحيح تلك القدسية، وأصبحت عندهم عبارة عن مظاهر ومراسم لا تترك أثرًا ولا تجدي نفعًا.
فبعد أن كان المرء يحسب للفظ الشهادتين كل حساب، ويشعر وهو يتلفظ بهما بالخشوع والخضوع الكامل... أصبحنا نجد المسلم الذي يكررها مئات المرات ويجعلها وردًا من أوراده وهي لا تترك فيه أثرًا، ولا تصلح منه سلوكًا.
وقل مثل هذا في جميع أنواع الذكر:
فكم من مستغفر لله عز وجل وهو متلبس بمعصية الله ومخالفته لا يجاوز الاستغفار لسانه.
وكم من مسبح وحامد وشاكر لله عز وجل بلسانه، وهو غافل عن نعمه، ومرتكب لما يوحي بالكفران لهذه النعم.
تجد هذا كثيرًا في عامة الناس المحافظين على الأذكار والأوراد التي اعتاد عليها لسانهم، ولكنها لا تحرك قلوبهم... ترى هل يعتبر ذكرهم هذا عادة أم عبادة!؟
كنت مرة مع صحب لي في المسجد النبوي الشريف ننتظر الإفطار في رمضان، وكان أحد المحافظين على ذكر الإفطار جالسًا، فما أن تناول واحدة من التمر حتى قال على عجل: «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت وعليك توكلت، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» (أخرجه أبو داود (2357).).
فقلت له - منبها على هذه الحال وقبل أن يتناول الماء - هل ذهب ظمؤك، وابتلت عروقك حقًا!؟ فتعجب وتنبه.
وإن تعجب فعجب فعل مرتكب الكبائر، يجلس في المسجد ويتلو آيات القرآن فتمر عليه آيات الربا وغيرها دون أن تهز من نفسه، أو تنبه شعوره!!
والصلاة التي كانت قرة عيون المؤمنين، ومعراج المتقين، أصبحت عند كثير من المصلين عبارة عن حركات منظمة تفتقد الخشوع والطمأنينة.
وأنى لصلاة كهذه أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، فتؤدي وظيفتها في حياة الناس وسلوكهم...!
والزكاة التي شرعت طهرة للقلوب، وتزكية لها من حب المال أصبحت عند كثير من المؤدين لها ضريبة من الضرائب، يحتال عليها ويتثاقل من دفعها.
وأنى لمثل هذه الزكاة أن تردع صاحبها عن الحرام، وأن تطهر قلبه من حب المال...!
وشهر رمضان الذي كان مدرسة التقوى والصبر... أصبح شهر طعام وشراب، وتلذذ وسمر...
يفهمه كثير من الصائمين امتناعًا عن الطعام والشراب في النهار، واسترسالًا فيه بالليل، وأنى لمثل هذا الصيام أن يطهر النفوس ويربيها على فضائل الصيام...!
ومناسك الحج تلك المدرسة التربوية الجامعة، أصبحت عند معظم الحجاج أعمالًا روتينية لا تؤدي وظيفتها في النفوس...
يتقيد الحاج أيام الحج بمحظورات الإحرام، وهو متلبس بمحظورات الإسلام...
فكم من حاج يسأل مثلًا عن حكم لبس الساعة حال الإحرام خشية الوقوع في المحظور، وهو متختم بالذهب طيلة حياته، لا يشعر به ولا يسأل عنه...
وكم من حاج يخشى سقوط شعرة أو شعرات من جسمه، ويتحرز عنه كل التحرز، وهو مطلق لنفسه العنان في غير أيام الحج فيحلق ما يشاء ويترك ما يشاء، وكأنه سيد نفسه، ولا يشعر بعبوديته...
وأنى لحاج مثل هذا وذاك أن يستفيد من الحج، وأن يعود حجه عليه بالنفع!!
والحجاب الذي كان مظهر العفة والحياء، أصبح عند كثير من النساء عبئًا ثقيلًا يتفنن في إزاحته، أو تشويه حقيقته...
وإذا ما لبسته المرأة فإنما تلبسه تبعًا لعاداتها وتقاليد بلادها، وما أعجب أن تحتجب المرأة في صلاتها، ثم تخرج بعدها سافرة متبرجة!!
واللحية بعد أن كانت شعار التمسك والاتباع، أصبحت عند كثير من المسلمين تبعًا للتقاليد والأزياء... وقل مثل هذا في كل شعيرة من الشعائر التعبدية، وفي كل عمل دعا إليه الإسلام، ولا يزال في المسلمين من يتمسك به أو يدعو إليه.
ودع عنك أولئك الذين تنصلوا من الأحكام الشرعية، ولم يراعوا في حياتهم حلالًا ولا حرامًا... فأي معنى العبادة يبقى لهؤلاء، وأي وصف من أوصافها يسلم لهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله
سبب هذا التحول:
ولعلنا نستطيع أن نرجع هذا التحول الخطير إلى سببين أساسيين: هما:
1- الخطأ في مفهوم الإنسان لوجوده ووظيفته في هذه الحياة.
2- تصور المسلم الشعائر التعبدية غايات لا وسائل.
فقد أوضح الله للناس سنته في خلقه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وقال أيضًا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
وليس بعد هذه السنة الكونية القاطعة قول لحكيم ولا تعليل لخبير... فبعد أن كان مفهوم المسلم أنه ما خلق في هذا الكون إلا ليعبد الله عز وجل، ويحقق كمال العبودية في طاعته وخضوعه...
نسي هذه الغاية، وجهل تلك الوظيفة، وتشبه بالحيوانات فجعل أكبر همه في هذه الحياة طعامه وشرابه وشهوته...
فغفل عن الكرامة التي أكرمه الله بها، وجحد نعمة العقل والتكليف، فتغير مفهومه لهذه الحياة... وتبعًا لهذا التغير تغير كل شيء: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وبدلًا من أن تكون الشعائر التعبدية عند المسلم وسائل تربوية، ومدارس تدريبية، يعرج بها المؤمن في معارج الكمال، ويصل بها إلى كمال العبودية الحقة فيكون عبدًا حقًا وصدقًا.
بدلًا من هذا كله أصبحت هذه الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها... غايات في ذاتها، يحافظ عليها المرء دون أن تكون لها صلة بحياته، ويؤديها ثم ينطلق بعدها كما يريد دون أن يشعر بالتعارض والتناقض.
وأنى لمثل هذا أن يتفكر في حقائقها، وأن يستفيد من دروسها، ما دام ينظر إليها تلك النظرة، ويفهمها ذلك الفهم!
مثله في هذا مثل الطفل الصغير الذي يرى المدرسة قيدا لحريته، ولكنه يذهب إليها إرضاء لوالده أو خوفا من عقابه... فأنى له أن يستفيد من مدرسته، وهيهات أن يتخرج من المدرسة -ما دام على هذه الحال- عالمًا صالحًا.
إنه لن يستفيد منها حتى يعلم حقيقتها، وتتغير نظرته إليها.
خطر هذا التحول على الحياة الإسلامية:
وبعد عرضنا لتحول مفهوم العبادة وتحليلنا لأسبابه، يمكننا أن نتلمس خطر هذا التحول في حياة المسلمين، ونجمله في جانبين أساسيين:
1- فقدان أثر هذه المدارس التربوية في النفوس.
2- ومن ثم: زهد الناس فيها، وضياعهم بتركها.
أما الجانب الأول: فيظهر جليًا بقدر تفهم أثر تلك الشعائر التعبدية، والمدارس التربوية في نفوس الناس وحياتهم.
تصوروا بلدة كثر فيها بناء المدارس التعليمية، والمستشفيات الصحية حتى عمت كل حي وشارع... إلا أن الناس فيها أعرضوا عنها، واكتفوا بكثرتها وانتشارها، فلا أساتذة ولا طلاب في المدارس، ولا أطباء ولا مرضى في المستشفيات... فهل يمكن لهذه المؤسسات أن تؤدي وظيفتها في هذه المدينة، فتشيع بين أهلها العلم، وتقضي على الأمراض والأسقام!!؟
وهل يغني هؤلاء القوم وجودها عندهم، وانتشارها بينهم؟!
فذلك مثل الشعائر التعبدية، والمدارس الدينية التربوية التي افتتحها الله لعباده، وبين حاجتهم إليها، ومجال الاستفادة منها فقال عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وقال عن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (أخرجه البخاري.).
وقال عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقال عن الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، إلى غير ذلك من نصوص عللت مشروعية العبادات والأعمال الشرعية وبينت أثرها في حياة الناس... فإذا باشر الناس هذه العبادات، وأدوا هذه الشعائر على أنها مجرد أوامر، دون تنبه لمقاصدها، وحرص على الاستفادة منها، فقدوا خيرها وآثارها في نفوسهم، وزهدوا من بعدهم فيها.
وأما الجانب الثاني: وهو زهد الناس فيها، وضياعهم بتركها، فيؤكده واقع المسلمين اليوم في أغلب بلدانهم، حيث ترى محافظة الكبار منهم على هذه الشعائر التعبدية محافظة عادة.
في الوقت الذي ترى فيه إعراض الشباب عنها، وزهدهم فيها، فالناس بين محافظين غافلين، وبين معرضين زاهدين... وأي شيء أخطر على حياة المسلمين من هذه الحال...!؟
إن السنة الكونية التي بينها الله عز وجل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، والتي بينت لنا الداء، وكشفت لنا عن سبب هذا التحول الخطير، هي نفسها مع مثيلاتها من آيات الله توضح له الدواء، وتصف أساليب العلاج.
فكما تحول واقع المسلمين من حسن إلى سيئ تبعا لتغير مفهومهم لحقيقة وجودهم، وتقصيرهم في أداء وظيفتهم... فكذلك تكفل الآية لهم أن يغير الله ما بهم، ويعيدهم إلى ما كانوا عليه من خير إذا ما حققوا ذلك الشرط، وغيروا واقعهم السيئ الذي صاروا إليه، فأصلحوا مفاهيمهم، وقاموا بوظيفتهم حق القيام.
كل هذا يؤكده منطوق هذه الآية، فيشمل التغيير من أسفل إلى أعلى، كما شمل التغيير من أعلى إلى أسفل...
إلا أن هذا التغيير المطلوب ليس بالأمر السهل الهين، وإنما يحتاج إلى جهود عظيمة متواصلة... جهود خاصة يبذلها الدعاة والمربون، وجهود عامة يقوم بها عامة المسلمين...
فعلى الدعاة أولًا أن يوضحوا للناس الحكمة من مشروعية هذه العبادات، وكيفية الاستفادة منها، وأن يلمسوا الناس واقعهم السيئ الذي هم في غفلة عنه، والذي سببه جهلهم بحقيقة هذه العبادات وغاياتها، وتحول مفهومهم لها.
وعلى الناس ثانيًا أن يتفهموا هذه الحقائق، ويتنبهوا إلى الخطر المحدق بهم، ليؤدوا هذه الشعائر التعبدية عن وعي وفهم، وبخضوع وخشوع، لتؤتي ثمارها في نفوسهم.
ومن ثم تأتي رغبة الأجيال بها، ويقوى حرصهم عليها، إذا لمسوا آثارها في النفوس، وظهرت فوائدها للعيون...
وعندئذ تقل الحاجة إلى الكلام والإقناع؛ لأن الواقع العملي المتحرك أكبر مؤثر في النفوس، والصلاح المنبثق عن العبادة أول داع لها ومحبب فيها...
فلنسهم جميعًا في توضيح هذه الحقائق للناس بالوسائل المختلفة، والأساليب المتنوعة، ولنكون من أنفسنا وأهلينا نماذج تطبيقية سليمة تكون الداعية الأولى للصلاح، والمصدق الأكبر لما ندعو إليه، وعندئذ نوفر كثيرًا من الجهود، ونجني أطيب الثمار، ونستعيد رضا الله ورحمته التي وعد بها عباده التائبين المؤمنين الحريصين على العمل الصالح، فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم : 59]، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60].
ونحقق وعد الله لنا بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية (العدد الثاني).