تيار الإصلاح

                                                بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجتمع ضرب فيه الفساد بجذوره في مختلف جوانب الحياة؛ فالحالة السياسية يعمها التمزق والفوضى والصراعات التي تحكمها الأعراف القبلية، والحياة الاجتماعية يعكر عليها ظلم القوى للضعيف، والغني للفقير، والشريف للوضيع، والرجل للمرأة، وانتشر فيها السبي والعبودية، وأخلاق الجاهلية، ولم ينج من ذلك الجانب الاقتصادي؛ فقد ساده معاملات توقع البغضاء والغش والظلم بين أفراد المجتمع، وتحابي الأغنياء على حساب الفقراء، وعلى رأس ذلك جريمة الربا، وقبل ذلك كله عبودية البشر لغير الله تعالى، والوقوع في ألوان من الشرك.

 

فماذا فعل الرسول القدوة؟ لقد نشأ بين يديه جيل فريد من الصحابة رضوان الله عليهم، ربى حركته بالعقيدة، وعقيدته بالحركة؛ فلم يكن الإيمان لديهم مجرد محفوظات نظرية، أو تحليقات روحية أو تمتمات لفظية، دون أثر له في الواقع؛ بل علموا أنه قول وعمل وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، وأنه لا عبودية إلا لله وحده، وأنه لا حرية حقيقية إلا في تلك العبودية، وأن مكارم الأخلاق جزء لا يتجزأ من ذلك؛ بل هذا لب رسالته صلى الله عليه وسلم القائل: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، ولقد ترسخت عقيدة ذلك الجيل من خلال حركتهم بها في المجتمع ومعالجتهم له في مكابدة وصبر.

 

وماذا كانت النتيجة؟ لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة في المدينة تبدلت فيها أحوال الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فأصبحت تنعم بالعيش في ظل عقيدة الإسلام وأخلاق الإسلام ونظم الإسلام، ولم يكن الأمر ليقف عند ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أرسل {رحمة للعالمين}، فكانت انطلاقة المسلمين في الأرض لإزالة العوائق التي يمكن أن تحول بين الناس وبين تلك العقيدة الحية وآثارها، فتسارعوا للعيش في ظلالها، واتسعت رقعتها ليشهد التاريخ دولة حديثة متحضرة حدودها أطراف الدنيا، تنعم بنظام حكم مستمد من شريعة ربانية، عدة قرون لا عدة عقود!.

 

فماذا حدث؟ قامت دول وسقطت دول للإسلام عبر أكثر من ألف عام، إلى أن تسللت الانحرافات إلى المجتمع الإسلامي رويدًا رويدًا، القرنين الأخيرين، واتسع مداها، بفعل عوامل داخلية وخارجية (ليس مجال ذكرها هنا)، حتى شملت النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ بل والعلمية والاعتقادية، وأصبح البون شاسعًا بين الواقع وبين ما تربت عليه الأجيال المفضلة، فدب الضعف في كيان الأمة، وصارت مطمعًا لأعدائها الذين استفاقوا، بعدما اقتبسوا منها بعض العلوم والقيم التي مثلت مصادر قوة دولنا الإسلامية وحضارتنا، وطفقوا يحيكون المكائد ويشنون الهجمات الواحدة تلو الأخرى، حتى وقع ما لم يكن يتصوره أحد من المسلمين؛ وهو سقوط دولة الخلافة العثمانية التي حمت العالم الإسلامي مدة خمسة قرون.

 

وتسلط الأعداء وتمكنوا بعد إسقاطها من بلدان المسلمين التي قاموا بتقسيمها وتفتيتها، وانبهر بهم ضعاف النفوس والجهال، وصور لهم الأعداء أن سبب ما هم فيه وما حل بهم هو دينهم؛ الذي يجب تنحيته عن الحياة وحصره داخل النفس أو دار العبادة، كما فعل هؤلاء بدينهم، وما علموا (لجهلهم) أن طبيعة الدين الإسلامي الذي ابتعدوا عن حقيقته ليست كغيره من الأديان.

 

وجرى العمل على تأهيل فريق من بني جلدتنا يقوم على تثبيت وتنفيذ خطط الأعداء ضد أمتنا؛ وهكذا نشأ «طابور خامس» في بلدان المسلمين تولى مهمة إبعاد الدين عن التأثير الحقيقي في واقع الحياة، واتخاذ الغرب النصراني أو الشرق الإلحادي مصدرًا للقيم والإلهام، وحرصوا جميعًا على ألا يعود المسلمون لقيم دينهم الحقيقية؛ حتى لا تتحقق لهم نهضة أو تعود لهم قوة فتقوم لهم حضارة كما كانت.

 

لقد تنادى المخلصون للعودة إلى المعين الصافي الذي تربت عليه الأجيال الثلاثة المفضلة، ولتخليص مجتمعات المسلمين مما أصابها من انحرافات، والعمل على الأخذ بأسباب القوة والنهضة، وإدارة عجلة التقدم والتنمية لتلك المجتمعات وفق قيم الإسلام الأخلاقية؛ أملًا في استعادة الحكم بشريعة الإسلام الضامنة لإرساء قيم الكرامة والعدل والرحمة لكل إنسان، ورجاء أن يكون للمسلمين كيان سياسي واحد كما كانوا في الماضي القريب، وقد بذلت في سبيل ذلك مجهودات فردية وأخرى جماعية لتحقيق هذا الأمر وذلك حسب رؤية من قام بها وقدراته, وكان لكل منهم دور محمود وأثر واقعي في إيقاظ الهمم وإحياء ما اندثر، فاهتم البعض بالجانب الروحي أو السلوكي، وآخرون بالجانب العلمي، وبعضهم بالجانب السياسي، وآخرون بالعمل الخيري، ومنهم من أراد أن يجمع بين جوانب عدة، واستمر ذلك لعقود مضت فتحقق الكثير إلا أنهم لم يتحقق لهم كل ما أرادوا على الوجه المطلوب، وبخاصة إعادة الكيان الإسلامي الحر المستقل القوي.

 

لقد كان من الأسباب التي أعاقت التقدم نحو ذلك الهدف؛ ظن كل فريق بأن دوره هو الدور المحوري ذو الأولوية؛ الذي يجب أن تتوجه له جهود الجميع، فشاب عمله التعصب والاستهانة بما يقوم به الآخرون، وانشغلوا فيما تباروا فيه من تبرير ذلك، وأصبح الناس مشتتين بين رؤى مختلفة وممارسات متعارضة؛ مما أربكهم وشككهم فيما يقول هؤلاء وأولئك، واستغل الأعداء ذلك («الطابور الخامس» المشار إليه سابقًا) في تشويه سعي العاملين لدعوة الإسلام أمام عامة المسلمين كي لا يستجيب لأطروحاتهم.

 

إن الوضع الراهن الآن يدعونا لأن نفهم أننا بحاجة إلى جهود مخلصة كبيرة متنوعة، لا يصلح فيها التشتت والتشرذم فضلًا عن التعارض والشقاق؛ بل يتوجب فيها التوافق، والعمل في جميع الاتجاهات، وأن تشمل جهودنا جميع المجالات الدعوية، والعلمية، والاجتماعية، والسياسية، والإعلامية، والاقتصادية، وأن نحترم ما اختص به كل فريق حسب إمكاناته، وأنه لا بد من تكامل تلك الجهود والتنسيق بينها، رغبة في تحقيق وحدة الخطاب والموقف والعمل.

 

من هنا كان لا بد من انتصاب فئة لتأسيس تيار تتمثل فيه هذه الفكرة، ويدعو للعمل وفقها عقيدة ومنهجًا وأخلاقًا، من خلال عمل دعوي تربوي مؤسسي شامل، منفتح على الجميع، يتلاحم مع أفراد المجتمع، إنه «تيار الإصلاح».

 

التعريف:

هو تيار دعوي، تسع دعوته كل مسلم سليم المعتقد، صحيح الفكر، حسن الخلق، محب للخير، حريص على جمع الكلمة.

 

الرسالة:

الدعوة إلى الحياة بالإسلام بشموله، على مستوى الدولة والفرد؛ وترشيد العمل الإسلامي، والسعي للتعاون وفق ذلك، لتقديم نماذج فعالة ومتميزة علميًا، وتربويًا، وأخلاقيًا، ومتوازنة سلوكيًا، وفكريًا، بمؤسسية وانفتاح واحترام للتخصص.

 

من أهداف التيار:

1- ترسيخ المعنى الشامل للإسلام وأنه منهج حياة، وربط قضية تحكيم الشريعة بالإيمان، وإحياء شعيرة التواصي بالحق.

2- رفع المعاناة عن الناس، بإرساء سبل التعاون والتكافل.

3-تحقيق الوسطية والتوازن على مستوى الفرد والأمة.

4- ترسيخ قيمة العلم والتأصيل الشرعي، والعمل المؤسسي، والتخطيط، واحترام التخصص.

5- التواصل مع الرموز والهيئات المؤثرة في المجتمع، والعمل على إزالة الحواجز بين العاملين في حقل الدعوة، ونشر ثقافة التكامل بينهم.

 

 

من أهم قِيَمِ التيار:

1- التمحور حول المبادئ والأفكار لا الأسماء والأشخاص.

2- التوازن في شخصية الفرد، وسلوكه، وتعامله مع الآخرين.

3- مراعاة التأصيل الشرعي، مع فقه الواقع بأدواته، وفقه المصالح والمفاسد، وفقه الأولويات بضوابطه.

4- اعتماد مبدأ التربية الشاملة المتميزة والمستمرة، والتوسع فيها بتوازن، مع تقديم الكيف على الكم.

5- التزام الشورى، والتعاون والتكامل مع الآخرين في محيط العمل الدعوي.

6- الكرامة والعدل والرحمة دون تمييز بين الناس.

 

موقف التيار تجاه بعض القضايا:

 

أولاً: العقيدة:

لا تنحصر العقيدة لدى «تيار الإصلاح» في قضايا عقلية مجردة؛ بل ينبغي حملها بوعي كما وعاها الرعيل الأول، فتمتزج بالروح وتحيي القلب؛ فتولد طاقة هائلة تدفع للعمل الصالح، كما كان الشأن مع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حملوا بعقيدتهم الإسلام إلى جميع العالم، وضحوا لأجله بأنفسهم وأموالهم.

فالإيجابية ثمرة العقيدة الصحيحة، وهي تورث فهم الداعية طبيعة الصراع الدائر اليوم بين الحق والباطل، وتجند حياته لنصرة الحق، والتضحية في سبيله.

 

ثانيًا: المنهج:

يلتزم «تيار الإصلاح» بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة الذين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويرى أن تناول الوسائل العصرية واستغلالها في الدعوة لتحقيق الأهداف المرجوة؛ لا يتعارض مع سلفية المنهج، ما لم تكن محرمة شرعًا؛ بل لا يكتفي بما هو متاح منها وإنما يسعى للتطوير والابتكار.

ويرى التيار أن الناس في الانتساب إلى المنهج السلفي يتفاوتون، حسب قربهم وبعدهم عنه؛ لا حسب انتمائهم لجماعة أو حزب.

ويرى أن وقوع بعض الأخطاء الجزئية من البعض، وإن كانوا لا يقرون عليها، لا يعد مفارقةً تامة لهذا المنهج.

يقول الشاطبي :«لا يُعَدُّ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا الْمُخَالِف فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ وَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يَنْتَظِمِ الْحَدِيثُ - عَلَى الْخُصُوصِ - إلا أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعْ مَا يَنْقُضُ أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْ يَخْرِمُ أَصْلاً مِنَ الشَّرْعِ عَامًّا، فلا دُخُولَ لَهُ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ ».

وقد وقعت أخطاء من أئمة كبار، ومع ذلك لا زلنا نتعلم منهم ونثني عليهم، والمرء يوزن بحسناته وسيئاته؛ لا بسيئاته وحدها، وكذا الطوائف والجماعات.

كما يرى «تيار الإصلاح» أنه قد يكون خارج التيار من هو أقرب إلى الاقتداء بهذه القرون ممن هو داخله؛ فلا يحتكر الصواب، أو يعتقد أن النصر لا يأتي للأمة إلا من خلاله، وأنه سفينة النجاة الوحيدة, وأنه يجب على كل التيارات الأخرى السير خلفه.

ومن ثَمَّ يرى التيار أن سلفية المنهج والحفاظ على الثوابت، ليست حكرًا على فئة بعينها وإن تسمت بها؛ بل هذه السلفية يتشارك فيها كل من أخذ بالكتاب والسنة بفهم السلف ( أي الصحابة) لهما، وإن لم يسم نفسه بذلك.

 

ثالثًا: التربية:

يرى «تيار الإصلاح» أن التربية أصل هام تجب مراعاته، وإلا أصاب الدعوة الاضطراب والفشل؛ فبالتربية توجد الشخصية المتمسكة بعقيدة الإسلام وقيمه وأخلاقه وسلوكياته؛ فهي أصل عظيم لا يتم بدونه تغيير، ولا نجاح، والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يدرك مدى قربه من الصحابة، والمُدد الطويلة التي كانوا يقضونها معه، وكمّ التوجيهات والمعالجات التي تلقوها منه في مناسبات متنوعة.

ويرى التيار أنه لنجاح التربية لا بد من مراعاة التدرج في مراحلها، دون استعجال للاستكثار من حملة الدعوة، مع مراعاة ما يلي:

 

1-الشمول والتوازن:

 

فالشمول يعني الاهتمام بجميع الجوانب: كالعلم الشرعي، وفقه الواقع، والعبادة، والأخلاق والسلوك، والمعاملة.

أما التوازن فيعني عدم الإغراق في الاهتمام بجانب على حساب آخر، أو طغيانه على حق لازم؛ «فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه».

لقد اضطرب مفهوم التربية لدى كثيرين؛ فقصره البعض على الجانب الروحي، وقصره آخرون على العلم الشرعي والهدي الظاهر، وآخرون على الجوانب العملية دون العلمية، والبعض قصره على الأخلاق الحسنة، ولا شك أن مفهوم التربية يشمل ذلك كله وغيره؛ كالتربية على فهم السنن الربانية، والواقع المحيط، والتصرف لتحصيل أكبر المنافع ودفع المضار، والتربية على فهم طبيعة الصراع مع الباطل، والتحصن أمام خدعه ومكره، ووجوب الحركة لتغيير المجتمع ، والتربية على حسن القيادة والإدارة ومواجهة الأزمات، والتربية على الانتفاع بوسائل العصر في تحقيق رفعة الإسلام، وغير ذلك من أشكال التربية المتعددة التي ينبغي أن نعنى بها.

والمتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية التربية الشاملة، ولكن المقام لا يتحمل تفصيل ذلك.

وقد عني تيار الإصلاح بهذه التربية الشاملة لمنتسبيه، ووضع لها منهجًا ذا مراحل لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، أو التساهل فيها، مع المتابعة القريبة للمتربين؛ حيث لا يكتفى بمجرد التعليم، وإنما يصاحبه المعايشة والتوجيه.

 

2- التدرج:

ونعني به البدء بالأهم ثم المهم، وبالأصول وصولاً إلى الفروع؛ لا العكس، وذلك حسب طاقة المتربي.

 

3- الكليات قبل الجزئيات:

فيتم التركيز في التربية على تعليم المتربي القواعد الكلية، والمعايير الأساسية التي يستطيع التعامل وفقها مع جزئيات الواقع غير المتناهية.

 

4-التخصص بعد التأسيس:

إننا في طريق تحقيق أهدافنا نحتاج إلى الداعية البصير الذي يربي الجموع، والعالم النحرير الذي يضبط المسائل ويحررها، والسياسي المحنك الذي يعلم سبل المجرمين وخباياهم وكيفية التعامل معها، والإعلامي الفذ الذي يجيد استخدام الوسائل ويتقن دروبها، والاجتماعي الذي يتابع نفسية المجتمع وطرق تغييره، والاقتصادي المتبحر الذي يستطيع وضع تصور واقعي لنظام اقتصادي قوي، وسط الاقتصاد الدولي الجارف، وغيرها من التخصصات التي ينبغي أن توجد بين صفوفنا.

 

ومن هنا نستطيع تقديم كل فرد لما يصلح له ويتقنه، وأن نوظف كل إنسان التوظيف المناسب له؛ فمن كان ذكيًا جيد الحفظ حاضر الذهن سريع البديهة وجه للعلم، ومن كان فصيح الخطاب بارع الإلقاء جيد الحوار وجه للشأن الدعوي العام، ومن كان بارعًا في تخصصه من الحرف والمهن والصناعات وجه ليكفي الدعوة في مجاله، ... وهكذا، وهذا بعد تجاوزه القدر الأساسي والحد الأدنى من العلم الشرعي والتربية؛ التي يمثلها منهج تلك المرحلة.

 

5- التربية على العمل بروح الفريق:

فالعمل المؤسسي لا بد له من قيادة، تستمع لكل الآراء، ويعمل فيه الجميع بروح الفريق، ويغلب فيه ما استقرت عليه الشورى، بعيدًا عن القرارات الارتجالية الفردية.

 

6-التربية على العزائم لا تتبع الرخص:

فإن حمل الدعوة والصبر عليها يحتاج أصحاب الهمم العالية.

 

رابعًا: العمل السياسي:

 

«تيار الإصلاح» لا يحصر العمل الإسلامي في المسار السياسي، ولا يهمش العمل الدعوي والتربوي لصالح العمل السياسي، ولكن في الوقت نفسه يرى أهميته، وضرورة تحصيل متطلباته من إدراك الواقع، وإدراك مآلات الفعل السياسي.

 

إن معنى السياسة في الإسلام «رعاية شئون الناس»؛ فيكون الوعي لازمًا لحسن القيام بهذه الرعاية، ويُعرَّف الوعي السياسيَّ بأنَّه إدراكٌ لواقع المسلمين وواقع العالم، بكلِّ ما يعنيه ذلك من معرفة طبيعة العصر، ومشكلات البشر، والقوى الفاعلة والمؤثرة - الظاهرة والخفيّة - في مواقع القرار، لتكون هذه المعرفة مساعدة في حسن رعاية الأمة ومصالحها، وكذا في دفع المفاسد والأخطار عنها.

 

وإنَّ لغياب الوعي السياسي آثارًا سيئةً يصعب تحديدها وإدراكها بالكامل، لأن ما يتسببه هذا الغياب من انعدام وزنٍ يؤدي إلى حالة من توالد بلا حدود للتداعيات؛ فمن ذلك:

 

•عدم فهم اللغة السياسيَّة التي يتخاطب بها الناس من حولنا، سواءً على مستوى الألفاظ ومدلولها، أو على مستوى الأساليب وأبعادها، كمصطلحات: (النظام الدوليّ) و(الشرق الأوسط) و(التطرف) و(الأصوليَّة) و(مقاومة الإرهاب) و(اللوبي) و(صدام الحضارات) و(العولمة)... إلخ.

 

•عدم القدرة على استقراء اتجاهات الأحداث في العالم.

•العجز عن وضع الخطط المناسبة للتحرك.

•تنفيذ خطط الخصوم دون الشعور بذلك.

•الوقوع في تناقضاتٍ حول الخطوات المناسبة للمواجهة.

•السقوط في مصيدة الاختراق السياسي/ الفكري، مما يبلبل المسيرة.

•عدم الاستفادة من الفرص المتاحة ونقاط الضعف في جسم الخصم السياسيّ.

•الانشغال بغير العدو الحقيقيّ، والاشتباك مع التيارات الأخرى الموازية أو الحليفة المفترضة.

•فقدان الثقة بالعمل الشعبي المنظَّم كأداة صراعٍ ضد الخصوم.

•ضياع الفرص المناسبة، مع عدم الانتباه إلى الخسائر الراهنة وبعيدة المدى.

 

والوعي السياسي الذي يمثله فقه الواقع هو طريق إلى فقه التوقع؛ الذي هو: حسن الاستعداد للنازلة قبل وقوعها، أو الاستعداد لآثارها بعد وقوعها، باستشراف المشاهد التي يمكن أن تئول إليها في المستقبل، وذلك بواسطة تبصرات ومقاربات عقلية ينجزها عقل الفقيه، المزكى بنور الوحي، المستند إلى شواهد الماضي وقرائن الأحوال الحاضرة، فيعمد عند النظر في الوقائع المستقبلية، أو الوقائع الحالية التي تترتب عليها آثار مستقبلية، يعمد بشفوف نظره إلى توقع الصورة التي ستئول إليها الواقعة، ثم يرصد جملة المصالح والمفاسد المترتبة على تلك الصورة، ثم ينزل الأحكام المناسبة لها. وبالجملة فإن فقه التوقع عبارة عن عملية حدس متقدمة، مبنية على معطيات موضوعية، وأقيسة ونظائر معتبرة، بحيث يجتنب المجتهد الوقوع تحت ضغط الظرف الراهن، ويتحاشى التفاؤل المفرط، والتشاؤم المحبط.

 

واستشراف الإنسان لمستقبل أيامه ضروري لقادة الرأي، وساسة الشعوب، وأصحاب المصالح بعامة.

إن «تيار الإصلاح» ينطلق في نظرته للعمل السياسي مما يلي:

 

1- العمل السياسي أوسع من العمل الحزبي؛ ولا ينحصر فيه؛ فهو في صورته المعاصرة أَعَمُّ من أن يكون تكوينًا لحزب أو مشاركة فيه؛ فقد يكون مباشرة لعمل في مجلس تشريعي أو شوري، أو إنشاء لمؤسسات سياسية، أو مشاركة في مؤتمرات دولية، أو تكوينًا لجماعات ضغط سياسي، أو حضورًا فاعلاً في نقابات مهنية أو اتحادات طلابية، أو إيجادًا لتيارات شعبية أو إدارة لتحالفات وطنية.

2- السياسة لا تنفصل عن الدين؛ ولذا فالاهتمام بها جزء من الدعوة.

3- فصل العمل الحزبي عن العمل الدعوي يحافظ على مصداقية الدعاة.

4- وضوح المشروع السياسي وأهدافه؛ مثل:

إقامة أحكام الشريعة، والحيلولة دون مزيد من الإضاعة والانتهاك لما بقي منها.

تحصيل المصالح، ودفع أو تقليل المظالم.

المساهمة في النهوض بالمجتمع، وحل مشكلاته.

المحافظة على الحقوق، والدفاع عنها.

القيام بواجب الحسبة، وذلك بمحاربة الفساد، وكشف رموزه، وتعقبهم في مختلف المواقع، وفق قواعد المصلحة الشرعية.

5- أنه لا بد في الممارسة السياسية من الحذر مما يلي:

تحويل الوسائل إلى غايات.

شق الصف الإسلامي، وتفجير الفتن بين فصائله لتباين الاجتهادات حول قضية الممارسة السياسية ابتداء ، أو لتباين الاجتهادات حول بعض تطبيقاتها وآلياتها من ناحية أخرى.

الاستدراج إلى تنازلات في مواقف عملية لا تقابل بمصالح راجحة، والتنازل إذا بدأ فليس له حد ينتهي إليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

تقديم المصلحة الحزبية على مصلحة الأمة، ونصرة الحزب بمخالفة الحق والعدل.

عقد التحالفات السياسية ذات الطابع النفعي (البراجماتي)، غير القائم على أسس أخلاقية واضحة، لمجرد الشراكة في المصلحة السياسية الآنية، كإزاحة مسئول أو عرقلة قانون، مما يمثل انفصامًا مربكًا بين السياسي والأخلاقي.

فمثل هذه التحالفات بين تيارات مرجعيتها إسلامية مع مجموعات قد تمثل معارضة تحمل مشاريع أخلاقية مشبوهة؛ يعطي مصداقية وشرعية لهذه المجموعات، مما يعتبر تنازلاً عن «القيمي» لتحقيق «السياسي» السريع والمضمون.

وهو لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى أحد أمرين أحلاهما مر: إما ـ على أقل تقدير ـ غض الطرف عن المشاريع الأخلاقية المناوئة لهؤلاء الحلفاء، أو استخدامهم حتى تحقيق الهدف، ثم الاستغناء الحتمي عن شراكتهم، مما يصم المنهج الإسلامي بالوصولية والنفعية.

التكاسل عن التنظير الأصيل الذي يمتلك أدوات التحليل السياسي المضبوط، من حس سياسي سليم وفهم للغة المفاوضات والاتفاقيات، وقدرة على قراءة ما بين السطور، وخيال خصب في توقع «السيناريوهات» البديلة، والاستعداد لها قبل حدوثها، فضلاً عن بعد حدوثها، وإعمال قدر يسير من نظرية المؤامرة، المفيدة في هذه الظروف، دون جعلها شماعة تحمل كل الأخطاء.

الوقوع في خطط القوى المعادية دون الشعور بذلك.

النظرة المحلية.

 

6- الأمة مصدر السلطات: بمعنى:

 

حق الأمة في اختيار من يحكمها.

حق الأمة في الرقابة على الحاكم ومحاسبته.

 حق الأمة في عزل الحاكم عند الاقتضاء.

حق الأمة في المشاركة بالرأي وإعطاء الشورى.

حق الأمة في سن القوانين الموافقة للشرع.

 

خامسًا: الحريات:

من مظاهر الحرية التي كفلها النظام الإسلامي لرعاياه:

 

1ـ حرية العقيدة الدينية:

فالإسلام لا يُكرِه أحدًا على الدخول في دين الإسلام.

والواقع التاريخي يشهد أنه على توالي القرون في تاريخ الدولة الإسلامية لم يحدث أن أَكْرَه المسلمون أحدًا على اعتناق الدين الإسلامي, حتى شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.

فالحرية الدينية التي كفلها الإسلام لم يعرف لها نظير في القارات الخمس, ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ومنح مخالفيه في الاعتقاد حريتهم في ذلك كما فعل الإسلام.

 

2ـ حرية التفكير والتعبير عن الرأي:

كفل النظام الإسلامي للفرد حرية الرأي كفالة تامة؛ بل لقد جعل الإسلام التفكير وإبداء الرأي مسؤولية, وواجبًا على المسلم.

وليس أدل على توافر حرية التفكير من هذا التقدم العلمي الهائل, الذي أحدثه المسلمون في القرون الوسطى, في ذات الوقت الذي كان فيه الغرب يعيش في ظلمات الجهل والتخلف, بعد أن حجر النظام الكنسي في ذلك الوقت على الفكر والتفكير, وألزم عقول الناس بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان, وجعلها دينًا لا يجوز للناس أن يخالفوه، حتى حُرِق أحد العلماء لقوله بكروية الأرض.

وأما حرية التعبير عن الرأي فإنها تعد علامة بارزة من علامات النظام الإسلامي.

وإن كان كما قدمنا أن الإسلام يرعى حرية التفكير والإبداع, إلا أنه لا يسمح بفوضى فكرية عبثية تحطم الثوابت الشرعية وتعتدي على المقدسات والرسالات السماوية بدعوى الفكر النقدي أو التحرري, بل هي حرية خَلاَّقة تدعم الابتكار والارتقاء, وليست حرية التمرد التي لم نجْنِ منها إلا الصراع والعبث.

 

3ـ حرية المرأة:

النظام الإسلامي هو النظام الوحيد الذي كرم المرأة وحررها حقًا من قيود الظلم والجهل والتخلف، وجعل لكل من الرجل والمرأة حقوقه وواجباته التي تتناسب مع تركيبته النفسية والعضوية، وهما أمام الشرع سواء.

 

سادسًا: الوحدة والائتلاف:

 

المسلمون أمة واحدة، ودعاة أهل السنة طائفة واحدة، أساس وحدتهم الاعتصام بالكتاب والسنة، والاجتماع على الاتباع، والصدق في التآخي، والتغافل عن الزلَّات، والعفو عن الهفوات.

 

وإن تحقيق الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف بين المسلمين عامة، وطوائف الدعاة خاصة - من أهم مقاصد الدين وقواعده الكلية.

 

وتيار الإصلاح ينبذ العصبية، ويرى أنه جزء من التيار الإسلامي، وليس بديلاً عنه؛ فدعوته إتمام بناء لا ابتداء، ويرى أن وقوع بعض الدعاة في بعض المخالفات لا يعني إهدار فضلهم وجهدهم، وما أسهموا به في مجال الدعوة إلى الله، وإصلاح المجتمع.

 

فالعمل الإسلامي يكمل بعضه بعضًا، لا يهدم بعضه بعضًا، ولا ينسي بعضه جهد بعض أو فضل بعض، فنحن نفتخر بما أنجزه إخواننا؛ نفرح بفضل الله عليهم وإعانته لهم، ونحزن لهم إن وقع من بعضهم زلة، نعذرهم ما استطعنا ونسأل الله أن يسددهم، ولا نلاسنهم على الملأ فرحًا بهفواتهم؛ بل نناصحهم، ونرفق بهم، ونعلم جاهلهم، فهم إخواننا لا يقوينا ضعفهم، ولا يرضينا تعنيفهم.

 

وبالنظر إلى التحديات الداخلية والخارجية في ساحة الدعوة والواجب حيالـها -يبدو جليًّا أن الوحدة الإسلامية بين الدعاة هي واجب الوقت، وطريقها جمع الدين علمًا وعملاً، ونتيجتها العز في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة.

 

والوحدة المقصودة الآن ليست تعني: ذوبان فئة في أخرى، ولا انحلال طائفة لحساب غيرها، وإنما الاجتماع على أصول أهل السنة عامة، وعلى صحة المعتقد خاصة، والاجتماع على أصول الدعوة وتبنيها علميًّا وعمليًّا، وتأليف تيار إسلامي واحد؛ الانتماء إليه أرشد وأنجح من الاجتماع على راية حزبية أو دعوة شخصية.

 

ومن نتائج وإيجابيات اجتماع الدعاة بطوائفهم المتنوعة؛ إفراز مرجعية واحدة يفوض إليها عموم النظر في قضايا الأمة، وتصحيح النظرة إلى التعدُّد في ساحة الدعوة، وترقيق الحواجز الموهومة بين الدعاة، وقطع السبيل على قالة السوء ودعاة الفتنة.

 

وأصل الاجتماع الاتفاق والوفاق: وهو الالتقاء على أصول السنة في كل باب، والتعاذر والتغافر فيما اختلفوا فيه؛ الفقهياتُ والعَقَديّات في ذلك سواءٌ.

 

وبناء على ما سبق فينبغي تجنب الدخول في معارك جانبية حول مسائل فروعية تستنزف الطاقات، وتصد العامة عن أهل الدعوة.

 

وأخيرًا فإن جمع كلمة القادة من العلماء والدعاة مطلب شرعي؛ يمثل مخرجًا من أزمة ونجاة من فتنة، وهو بمثابة الوسيلة والمقدمة لإقامة فروض وواجبات مُضيَّعة، وصيانة حرمات وحريات مصادَرة.

 

وإن التنوع بين طوائف دعاة أهل السنة في الاهتمامات والوظائف العملية، يحقق الشمول ويُفضي إلى التكامل، متى مُورِسَتِ الاجتهادات برشد، وأقيمت العلاقات بين طوائف الدعاة برشد أيضًا.

 

ولا بد أن نعلم أن الانتماء انتماءان:

 

انتماء غاية: وهو الانتماء لأمة الإسلام عامة ودعاتها ومجاهديها.

انتماء وسيلة: لجماعة خاصة.

 

ولا بد للدعاة المنتسبين إلى جماعات من فهم هذه القضية؛ لأنه إذا طغى الانتماء الأخير على الأول وقع الانحراف والتعصب والفرقة البغيضة، وتعسر السير نحو الوحدة المنشودة.